قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق: 7 - عيش مشترك وعمق إنساني(ب)

سامر أبو القاسم

عدم اندماج البعض في محيطه المتغير والمتحول، وعدم انسجامه مع مفاهيم وأوضاع جديدة، ينم عن غلو وتطرف ورفض لأي إصلاح تقتضيه الحكمة ووتيرة الحياة الحديثة التي غيّرت احتياجات المتدينين، ويطرح آلاف الأسئلة عن إعراض بعض الفقهاء عن فكرة تجديد التفكير الديني جملة. وهو إعراض يخالف بشكل فاضح العقل والدين. إذ لا يعقل أن يصلح للقرن الواحد والعشرين كل ما صلح لما قبله بأربعة عشرة قرنا، ولا يستساغ أن يقف هذا الرفض في وجه نهوض البلدان الإسلامية وتطلع المنتسبين لها إلى الارتقاء في مدارج الحياة عبر التقدم في العلم والمعرفة والإبداع والتغيير كما تنص على ذلك الكثير من النصوص الدينية، التي يراد تعطيلها لغايات في نفوس المتقاعسين عن الاجتهاد.

وأمام هذا الوضع غير القابل للتوصيف إلا بما ساء من الأحوال، ألا زال الفقهاء يُعَدُّون خلفاء للرسول في أمته وفي دعوته وحفظ سنته وبيان شريعته للناس؟ ألا زالوا يُعتبَرون أئمةً للناس وقُدوتَهم وأعظمَهم واجبا واستحقاقا للاتّباع؟ ألا زالوا مُبيِّنين لأحكام النوازل والحوادث الجديدة وناصحين للأئمة والناس؟ ألا زال لديهم حظ من العلم والفهم عليهم تبليغُه لمن لا علم له؟ ألا زال لهم دور في التعليم والإجابة عن السائلين وتذكير الغافلين؟

بقدر ما يهمنا طرح مثل هذه الأسئلة بهذا الوضوح، بقدر ما نود التأكيد على أن إغماض العين تجاه واقع حال البلدان الإسلامية اليوم ليس بالأمر الصحي في ظل ملاحظة الضعف والوهن والمزيد من التقهقر والتخلف.

فالسعي لتحقيق إقلاع اقتصادي وتنمية شاملة وتحديث مجتمعي مواكب لشروط العصر، في ظل هذا الوضع المتوتر الذي يعيشه العالم اليوم، وفي ظل اشتعال الحروب في كل الاتجاهات، وفي سياق الابتلاء بالجوائح والكوارث الطبيعية التي ما فتئ البعض منها يهدأ إلا ليقوم مقامه البعض الآخر، يتطلب دراسة أوضاع الشعوب داخل هذه البلدان وتشخيصها بشكل دقيق، ودراسة البيئة الحضارية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمجتمعاتها. بل ويفرض إعادة تقييم الرأسمال القيمي والرمزي للموروث الثقافي والديني في ضوء التطوارت الجارية، والوقوف على قدراتها ومؤهلاتها الاقتصادية والقيمية في إطار علاقتها بموازين القوى على المستوى الدولي، واستثمار الموارد الطبيعية والبشرية والرمزية لخلق شروط الرفاه والتموقع الجيد في السياق العالمي، وتحسين ظروف العيش والعمل لمواطناتها ومواطنيها، والبناء وتحسين الخدمات وصناعة آليات التقدم والارتقاء.

وأن يكون الفقهاء راضون بموقعهم وسط هذه البيئة الأقل أمنا، ولا يتجهون بتفكيرهم إلى ما هو أساسي من تحديات مطروحة، سواء منها الاقتصادية والتنموية أو الأمنية والعسكرية أو الفكرية والسياسية، بل ويدّعون الالتزام بالمرابطة على ثغور التدين والدعوة والجهاد، فهم من يَصْدُق في حقهم وصف الإمام الغزالي "علماء السوء". فقد أصبح واضحا اليوم للجميع أن ضعف ووهن البلدان الإسلامية مردُّه إلى تحريف التفكير والنقاش بخصوص الأساسي من القضايا المطروحة على الطاولة، وإلهاء الناس بمسائل من قبيل الاستعمار والغرب وما شابه ذلك، والوقوف في وجه دعاة تعطيل الإسلام كتابا وسنة وإشاعة الفواحش والتمرد على الإسلام ومحاربة أعداء الدين. والحال أن هذا الضعف الملازم لها هو ما كان - في الأصل - سببا في رضوخها لأطماع المستعمرين. والحقيقة أن هناك قلة من هذه البلدان التي أخذت تتلمس مقدمات النجاح في اقتحام العالم الحديث، دون التخلي عن أسلوب حياتها وتقاليدها وعالمها، وبامتلاك الرغبة في إضفاء الطابع العصري على وجودها وتحديث بنياتها. وهي بذلك آخذة في تشكيل حصن ضد الغلو والتشدد والتطرف بفضل الالتزام بالكفاح من أجل تطوير الحياة داخلها.

وقد صار واضحا كذلك أن تلك الطرق التقليدية في الدفاع عن الدين عفا عنها الدهر وشرب ولم تعد لها من نجاعة أمام الشبكات الرقمية وانفجار البث التلفزيوني العابر للحدود الذي لا مجال فيه للاكتفاء بمخاطبة العواطف والغرائز بما لا يتماشى مع تطوارت العصر. كما أصبحت تعطي الانطباع للغير كما لو أن البلدان الإسلامية فاقدة للمناعة تجاه كل ما يمكن تهديد أمنها الروحي والعقدي، وكأنها ريشة في مهب الريح. والأكثر من ذلك، هو أن هذا المنحى لا يقود إلا إلى خسران المعارك الأساسية لفائدة دعوات وشعارات التطرُّف والتزمُّت التي تسودُ فَضَاء وخطابات الجماعات الجهادية المُرعِبة.

وفي غياب تام لأي تأثير إيجابي لفقهاء اليوم، غاب الميل إلى الرحمة والإنسانية والضمير، وابتعد الناس عن الإيمان بالحق الحصري لله في محاسبة البشر عن علاقتهم به، وأخذ الصراخ يعلو بتولي سلطة معاقبة الناس والحكم على النوايا وتوزيع صكوك الغفران في الدنيا قبل الآخرة. والحال أنه كان بالإمكان تجنب كل هذا، وتفادي السقوط في قبضة رجال دين آمرين ومُحاسِبين بتفويض مزعوم من نصوص دينية تَمَّ لَيُّ أعناقِها.

لقد تغير كل شيء، وأصبحت الأمور تتقهقر بفعل الاحتقان، وتعسّرت سبل التعايش، وضاق المكان بأهله، وما عاد الواحد يهنأ براحة البال، وزادت التوترات، وانعكس ذلك على الأبناء؛ فما عادت التربية هي التربية، ووقع التفريط في المنظومة القيمية، وأصبح التحكم في الناس طاغيا، وفرض الوصاية على النساء والأبناء باديا.

أصبح الفضاء مرتعا لشيوع الميل عن الاعتدال، والاتجاه نحو التَّسيُّب، واعتماد مجاوزة الحدّ أسلوبا في فهم الحياة وما ارتبط بها من قضايا ومسائل دينية ودنيوية. وانتشار بدعة الارتباط بكل ما هو بعيد عن المتعارف عليه، والتهيؤ لنشر وترسيخ معتقدات مصحوبة برغبة في الانتقال إلى ممارسات عنيفة. ودَبَّ في مفاصل المكان التعصب والغلو في المواقف والأحكام، وعدم السماح للآخرين بمجرد إبداء الرأي، والانطلاق من الإيمان بمكانة الوساطة بين الله والبشر، وتمثيل الحق في مقابل ضلال الآخرين، واعتماد العنف في التعامل، والخشونة والغلظة في الدعوة، والشذوذ في الشكل والمظهر، والنظرة التشاؤمية في المستقبل، وتمجيد الماضي، والاندفاع وعدم ضبط النفس، والخروج عن القَصْد الحَسَن وعن التسيير المعتدل.

مع هذا المنحى من الافتراء على الله، تحوّل الفكر المتطرف إلى أنماط عنيفة من السلوك؛ وإلى اعتداء سافر على الحقوق والحريات والممتلكات، وإلى سفك للدماء واستباحة للأرواح وتهديد للسلامة الجسدية، وتشكيل لجماعات مجاهدة في حق الدولة والمجتمع. وتحولت النوايا والأفكار مع المتنطعين إلى سلوكات إجرامية، حيث التشدد في الاعتقاد، والمبالغة في العبادة، والتمادي في التقليل من شأن الالتزام الديني لدى الناس، وتكفير الآخرين، وتوعُّدهم بالتصفية الجسدية.. حالة التسيب والفوضى هذه أحدثت في المقابل رجة كبيرة في طبيعة العلاقات وشكل التفاعلات، فأخذت الصلات تتراخى وتضعف، وأصبحت النزعات الفردية طاغية، وباتت المصالح الآنية هي الحاسم في التعايش بين الناس.

ففي المجتمعات الإسلامية اليوم، هناك من النساء من انطوت قراراتهن المريرة في الحياة على إرادة قوية في التخلص من الخضوع لسطوة الجهل والطغيان، وعلى استنكار لما يسود من علاقات مبنية على إفقاد الأفراد شروط الكرامة، وعلى الصراخ في وجه الجميع للامتناع عن الانصياع لعقلية الاستعباد. ومن الأبناء والبنات من اضطر لتفضيل مغادرة الأسرة كحضن آمن والتعرض للتشرد، ومنهم من ضاقت به السبل فأقدم على الانتحار أو الهجرة.. وكأن القوم أصبح في غابة حيث لا مستقر، وحيث تمارس كل أشكال التعنيف والضغط والخدمة والطاعة تحت الإكراه، وحيث الحياة لا تطاق داخل الأسرة وفي كنف بيت الزوجية، وحيث لا مجال للتّنعُّم بتغذية متوازنة ولا باستكانة ولا براحة بال. اغتصاب، وتزويج قسري، وتعنيف، وتوحش في السلوكات، وغياب للحس الإنساني، وتفجير لأسوأ قضايا تدبير العيش المشترك، وتنشئة لا تُقدِّر الفرد ولا تحترمه، وأجواء لا توفر سبل العيش في أمن واطمئنان.. وكل ذلك ما هو إلا تعبير عن استمرار الاتجاهات المضادة للعمق الإنساني في علاقاتنا، وتجسيد لشعور الكثير بفقدان تقدير الذات واحترامها، وتعبير عما يتعرض له الكثير من إجبار وحرمان، وإحساس بعدم القدرة على التمتع بالحقوق على قدر مساو للجميع.

ألا يليق بمثل هذه الأوضاع العتاب واللوم على عدم قدرة البلدان الإسلامية وأهلها على التعبير عن السلوك التضامني للتخفيف من معاناة وآلام الضحايا، والحد من تعميق الشعور والوعي بأن الناس مهددون وغير آمنين ومحبطون ومُعرَّضون للمزيد من الظلم والقهر؟ يبدو أن الحس بالمسؤولية المشتركة غير حاضر، وإنفاذ القوانين العادلة غائب، وحماية الأفراد داخل مجتمعاتهم آخر ما يمكن التفكير فيه، والتنشئة والتربية لا زالتا على حالهما من حيث عدم القدرة على الحيلولة دون صدور هذه التصرفات المتوحشة، ومجهود إبراز الدور الكبير للراشدين في غرس القيم لدى الأجيال الناشئة منذ الحلقات الأولى من مسار نموهم غير سوي ولا قويم، وتحركات الخطباء والوعاظ والدعاة خارج التغطية.