إن كان الاجتهاد في أحد أبعاده يأتي على النقيض من التقاعس واستبلاد الناس فيما يتعلق بالانتقاص من كرامتهم والتهجم على مصالحهم، فكذلك هو الشأن بخصوص تبرير الإجهاز على الحقوق والحريات باسم المرجعية الدينية والمُحدِّدات العقدية والأحكام الشرعية، والتّطاول باسم المشيئة الإلهية على نُظُمٍ ذات طبيعة اقتصادية وسياسية مُؤطَّرة بأسس ومبادئ ونظريات فكرية وعلمية وتطبيقات معاصرة.
فما عادت مثل هذه التخريجات تصلح حتّى كقاعدة لانتظام العلاقات والتفاعلات بين الناس داخل المجتمعات، بفعل سياقات الخلاف العقدي والمذهبي التي لم تَنْتَهِ كما العادة ـ إلاّ بالإعلان عن التبشير بظهور "الفرقة الناجية".
وقد أثبتت مثل هذه التجارب للعالم كلِّه كم هي أبعد عن إحياء علاقة المسلمين بدينهم ارتكازا على ثوابت دينية ونصوصِ وحيٍ مُؤطَّرة بنظر عقلي، ليبرز الخيط الناظم لجماعات محكومة بغاية امتلاك سلطة وجاه واحتكارهما، خارج دائرة النظر إلى النص الديني من منطلقات إنسانية وتاريخية. وبسبب ذلك تساوت نصوص الوحي مع نصوص أمراء الدّم، فضعف المسلمون وأضعفوا دولهم وفككوا مجتمعاتهم؛ فكريا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا وتربويا، وبالتالي حضاريا، وعجزوا عن مجاراة ومواكبة ما يحصل في العالم من تغيرات وتطوارت عصفت بهم وبمصالحهم، وأصبحوا متخلفين وفقراء تَعْمِيهِم الحاجةُ إلى المخزون العالمي من الغذاء والدواء والسلاح، الذي لا حول لهم ولا قوة في إنتاجه.
لذلك، فالاجتهاد المطلوب لا يمكن حصره أو قصره على تجديد الخطاب، لأن الخطاب يبقى خطابا للتّواصل ليس إلاّ. بل الأمر أعمق حين يتعلق بتحديث الرؤية من حيث الوجود والعيش وحماية الحقوق والحريات ورعاية المصالح وضمان الحاجات وتأمينها ككيان دولتي قائم على سياسة واقتصاد وخدمات ودفاع وأمن. وتلك هي البيئة التي ستَصْلُح لتجديد النظر العقلي والمنهجي في كافة المجالات، وفي القلب منها ما يتعلق بالاعتقاد والتشريع مضمونا وخطابا. وهو عِزُّ المطلوب الذي لن تقوم له قائمة إلاّ بتقوية الدولة وتعزيز قدراتها وإمكاناتها بدل تفتيتها وإضعافها والتّفرج على ترنّحها داخل منتظم دولي يحكمه منطق ازدواجية المعايير ويتحكم فيه الأقوى عسكريا والأدهى سياسيا.
ويبدو منذ زمن بعيد أن لا بديل عن الاجتهاد في الفكر الديني وفقهه، بالنظر إلى تجدّد الظروف والأحوال والإكراهات والتحديات، لحل مشكلات الناس في العصر الحالي، التي قد يُسعِف الماضي في إيجاد البعض القليل منها، وقد لا يسعف إلا بالاجتهادِ حاضرا والبحثِ والتمحيصِ فيما تراكم من تجارب وممارسات جيدة لدى الأمم الأخرى وبَذْلِ الجهد والوقت واستكشاف الواقع وعَصْرِ الذّهن لابتكار حلول ملائمة للحاضر ومستحضرة للآفاق المستقبلية. ولن يفيد في الأمر استسهالُ سبل المعالجة بالارتكان إلى الخوف من الابتعاد عن الدين وأحكامه، ولا الانغماسُ الكلي في الماضي وما يُخزِّنه من موروث، ولا إحاطةُ روّاد التقديس بهالة دينية غير نافعة، ولا تعظيمُ التّاريخ ووقائعه وأحداثه، بقدر ما ينبغي تقدير وتقييم حجم القضايا والمشكلات بميزان المصالح الإنسانية التي تكفل كرامة الناس في ضوء القيم والمقاصد الكبرى المتعاقد بشأنها هنا والآن.
وفي ظل ما نعيشه اليوم، ما عاد ممكنا تجاوز ما يقتضيه إغناء البعد الإنساني من كرامة، ولا التساهل مع كل ما لا ينسجم والسيادة الوطنية للدول ووحدتها واحترام حرية اختيارها ومحددات أمنها واستقرارها، ولا التغافل عمّا بإمكانه تهديد سلامة مواطنيها من كل ما هو عنصري أو طائفي أو مذهبي، ولا التّراخي في التعامل مع حركات التقوقع على الذات ومعاداة باقي الحضارات والثقافات والديانات والمشارب الفكرية والسياسية الأخرى. ويبدو أن أجزاء كبيرة من مساحات الفكر في مجتمعاتنا أصبحت شبه قاحلة، إلى درجة أن الجفاف ما عاد إلاّ مألوفا وحادا. فالناس في المجتمعات المُقابِلة تعيش على سواحل من الجدّ والاجتهاد والابتكار عرفتها مجتمعاتُها حين كان الظلام يبسط أجنحته على مناطق أخرى من العالم، حيث العلم والمعرفة والتناظر كان وفيرا.
فالعقل اليوم على مستوى التفكير يكاد يصبح مُسطَّحا، وتكاد لا توجد أعلام تستقطب سُحُبَ ثورة ثقافية تنهض بالحاضر وتستشرف آفاق المستقبل. والاجتهاد هنا صار نادرا وغير مُنتظِم، والنّاس تكيفت منذ وقت بعيد مع الاكتفاء بالرغبة في البقاء على قيد الحياة، في هذا المناخ القاسي حيث تنمو في تربة فكرية فقيرة وإطارات ثقافية قاحلة. حيث أصبح الإنسان برّيا مُتوحِّشا ومُدمِّرا لكل أصناف الرأسمال الرمزي؛ بشرا وحضارة وثقافة وقيما وأنماط عيش، وحيث التربية والتنشئة أصبحت مُؤدِّية إلى تدمير البنية الجافة والهشة في الأصل، وحيث صار الفكر عقيما والتّصحّر آخذا في الازدياد، وكأن الثقافة أصبحت مُستنفذَة. وحيث الضرورة أصبحت تفرض إعادة التفكير في كل شيء، بما في ذلك الانتظام داخل علاقات وتفاعلات أُسَرِية طامحة إلى الأمن والطمأنينة والاستقرار، ومتطلعة إلى القيام بواجبها في التربية والتنشئة وتوفير سبل الإدماج لأولادها.
متعدّدة هي الاعتراضاتُ على الدّعوة إلى التحديث. فقد ذهب البعض إلى اعتبارها تبديلا لنصوص من القرآن والسنة، وارتأى الآخر أنها هدم للقرآن والسنة وإنشاء لشريعة جديدة. وحتى من وجد فيها نوعا من إعادة النظر في اجتهادات بشرية سابقة لا في نصوص الدين، ظل مدافعا ومنافحا عن العديد من الأحكام الشرعية، بفعل تقديس المأثور عن السلف؛ تارة بمبرر الإجماع الذي لا زالت تحوم حول إمكانية حصوله وانعقاده العديد من التساؤلات والملاحظات والانتقادات، أو لأسباب غير راجحة فيما انتهى إليه رأي جمهور الفقهاء في مكان أو زمان ما، وتارات أخرى بالقبض والعض على قواعد أصولية أريد لها الاستدامة وعدم القابلية للتجاوز، ضدا على اعتماد ما هو راجح من الأدلة في عمليات الاستنباط العقلي.
لكن، يتضح أن أمر التحديث غير مرحب به بمبرر التسليم بأن المطلوب هو إعادة بعث الأحكام الشرعية ذاتها وإحيائها كما استنبطت من أدلتها التفصيلية دون زيادة ولا نقصان. وكأن المشكل قائم في الواقع وفي المعيش اليومي للناس وفي قصور الخَلَفِ عن إعادة قراءة النصوص من جديد واستنباط ما يتناسب مع المكان والزمان. فالأمر لا يتعدى حدود إعادة تفصيل الواقع وتخييطه على قياس هذه الأحكام بإحكام، دون الالتفات للحاجة إلى إعادة النظر في الأحكام الشرعية المستنبطة سلفا، ولا لمراجعة القواعد الأصولية بما يسعف القيام بمهمة الاجتهاد والتدقيق في تفاصيل النوازل من جهة تغيرات الواقع وتطوارته، ولا التمحيص في النصوص الشرعية والترجيح فيما بين القراءات والتأويلات الممكنة والمحتملة. وهو ما يشكل استمرارا في التضييق على الناس وإحراجهم بالسقوط في مطب الازدواجية والنفاق الديني.
وسيرا على نهج الشمس التي تنسخ الظل حين تزيله وتحل محله، فالسلف هو من اهتدى إلى تأكيد مشروعية النسخ المستمدة من الرسالة المحمدية الناسخة للشرائع السماوية السابقة، وهو من استفاض في شرح وتبرير شروطه من باب التقعيد لآليات الاستنباط لتفادي ما يمكن فهمه من تعارض قائم بين نصوص قطعية الثبوت والدلالة، وهو من عَرَّفَه كآلية للتبديل والتحويل والتغيير فيما قام من تداول لغوي بين الناطقين بالعربية، وهو من قرنه في الإسلام وفي القرآن بالأوامر والنواهي الشرعية، وهو من حدد مفهومه في رفع حكم شرعي متقدم بدليل شرعي متأخر. فالسلف هو من وضع للنسخ دلائل منطقية لكونه قاعدة أصولية معتمدة لمراعاة تغير مصالح الناس عبر الزمن. والنسخ هو ما قضى برفع الحكم أو التلاوة أو هما معا في كلام الله ذاته، فبالأحرى اجتهادات السلف. والنسخ هو ما قضى ببطلان حكم ثابت بنص قرآني مع بقاء تلاوته واستمرار التعبد به. ومدلول النسخ هو تخفيف بعض الأحكام أو التدرج فيها عبر الزمن ومراعاة مصالح البلاد والناس وتسهيل أمورهم وتيسيرها.
ولكي لا يضعف الإيمان في القلوب، أو تُعطَّل ميزة الارتباط الوجداني بالعقيدة، أو تُقتَل خاصية التفاعل الإيماني والعملي مع كلام الله تعبدا ومعاملة، كانت الإشارة إلى مفهوم التجديد بما يعنيه من إحياء العلاقة بالنص الديني وإعادة صياغة فهمه وتفسيره وتأويله وفق مجريات التغير كسنة من سنن الحياة. وهو ما يسعف في إجلاء الغموض أو الالتباس الممكن حصوله في العلاقة بالنصوص عن طريق الارتباط بمفهوم البعث كخلق جديد من خلال الاجتهاد واستنباط أحكام شرعية جديدة مواكبة ومسايرة للتطوارت الحاصلة في الزمان والمكان.
فأمر التجديد إذا، يُعْنَى بالأفكار والتصوارت كمعتقدات إيمانية، وبالأحكام الشرعية كتطبيقات عملية لا تخص مجال التعبد لوحده بقدر ما تمتد إلى التعاملات والتفاعلات الجارية بين الناس وتنظيم أمور عيشهم وتدبير مصالحهم المشتركة. وهو تجديد يطال عمق المفاهيم والمعايير والاتجاهات الدينية التي يعتنقها الفرد أو الجماعة، ليتجاوز الخطاب في مدلوله أو بعده التواصلي ويصل إلى عمق التفكير الديني ذاته، ليصبح المعنى قائما على أساس إصلاح علاقة الناس بدينهم، والتفاعل مع أصوله في ظل ما يعاش من تغيرات وتحولات جارية في الحياة. ففي الغالب الأعم، وباستثناء الميسور منها، لا الأسرة اليوم قادرة على تأمين يُسْرِ المعيشة لمكوناتها من الجهة المادية، ولا هي ذات استطاعة لحفظ أمن مكوناتها واستقرارهم الاجتماعي، ولا هي متوفرة على شروط الالتزام بتوفير سكن لائق ومتطلبات تطبيب عصري ومقومات تعليم أولادها، ولا هي قادرة على ضمان تشغيلهم وإدماجهم مهنيا، ولا هي ناجحة في مهامها التربوية وجعل الأجيال الصاعدة مهيأة للاندماج في الحياة العامة، ويراد لها أن تكون الخلية الأساسية في المجتمع!
فما الأصالة إذن، إن لم تكن تأكيدا للهوية والوعي بالتراث، وانتفاضا على التقليد والجمود؟ وما المعاصرة، إن لم تُعبِّر عن مواجهة لما استجد في الحياة من وقائع وحوادث وأحداث؟ وما تحديث الفكر الديني، إن لم يطل المفاهيم والمعايير والاتجاهات والأفكار والتصوارت كمعتقدات وأحكام؟