قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق: 8 - اختلال في التوازن(أ)

سامر أبو القاسم

 

حضور المرأة داخل إطارات المجتمع بالبلدان الإسلامية ومؤسساتها لا زال مطبوعا بالرفض بسبب ما تتعرض له من تهميش وظلم وتعنيف، إضافة إلى فقدان الكرامة جراء سلوكات متوحشة تكاد اليوم تنقلها جل منابر الإعلام بشكل دائم، وهو ما يفسر صرخة نسائية في وجه مجتمعاتها كرفض للرضوخ لطرق وأساليب الإمعان في توغل النزعة الذكورية.

هذا هو الوجه المُتخَفي في ثنايا العقلية المُوجهة للسلوك في الحياة اليومية، والمحددة لطريقة اتخاذ الموقف من المرأة وتحركها في المحيط وتعاملها مع باقي مكوناته. وهذا هو ما يعتمل في الواقع من مماسات وتصرفات تشكل علامات دالة على مدى ابتعاد الممارسات عن البعد الإنساني كَمَنَاط لقواعد تنظيم الوجود، بما يدعو إلى تفجير قضايا كبرى تخص تدبير العيش المشترك على قاعدة المواطنة وطرق تنشئة الأفراد ذكورا وإناثا على قاعدة منظومة قيم إنسانية. 

وهذا ما يجعل المرأة في كل الوضعيات والمواقف والأوقات عرضة للإجبار والضغط والحرمان من اتخاذ القرار والاختيار، ويرسخ لدى النساء الإحساس بعدم القدرة على التمتع بكافة الحقوق والحريات على قدر مساو للرجال، ويشعرهن بكونهن مهددات وغير آمنات ومحبطات في بيئة غير مستعدة حتى للإنصات لمعاناتهن. بل ويزيد الطين بلة حين يتأثث المشهد بوجود قوى محافظة لا زالت مُمْعنَة في الميل إلى حرمان المرأة من حقوقها وحرياتها، بل وحتى إهانتها وتبخيس أدوارها داخل الأسرة، ومن خلالها في قلب المجتمع وإطاراته ومؤسساته بشكل عام.

فقضايا المرأة المعرضة باستمرار للوقوع في وضعيات مأساوية ولمواجهة مواقف عدوانية، تتطلب مجهودا من حيث إبراز الدور الكبير للحكومات في غرس القيم والاتجاهات الإيجابية لدى الأجيال الناشئة على أساس المواطنة، ومن حيث توضيح أهمية الفلسفة المُؤطرة لصياغة القواعد التشريعية والقانونية على قاعدة المساواة وتكافؤ الفرص، ومن حيث ضمان وإعمال الحقوق والحريات في واقع المعيش اليومي دون أي تمييز. خاصة وأن الدونية والتهميش والتعنيف والحط من الكرامة تعتبر جرائم شنيعة وبشعة ضد إنسانية الإنسان، لما ينتج عنها من مآسي نفسية ومادية واجتماعية لا تطال انعكاساتها السلبية المرأة لوحدها، بل تتعداها لتطال المجتمع برمته للأسف الشديد. ويتفاقم حجم معاناة النساء حين يلمسن غياب أي ردود فعل داعمة لهن ومتضامنة معهن، سواء من قبل الأهل والأقارب والجيران أو من طرف الساهرين على إنفاذ القانون.

وكأن الجميع متواطئ على ترك سفينة المرأة، وعلى أوضاع نساء يزج بهن في متاهات فقدان الكرامة. وهو ما يجعل البلدان الإسلامية في وضعية التنافي مع المنظومة القيمية الحقوقية الكونية، ويدفع بالعلاقات الاجتماعية داخلها إلى التخلف بمسافات ضوئية تفصلها عن قواعد وضوابط العيش المشترك في ظل منظومة معززة للذات. بما يحتم على جميع الفاعلين استيعاب حجم مسؤولية إدراك انتظارات الشعوب من الحكومات والنخب تجاه المرأة ومطالبتها بالتحرر والانعتاق، بدل التراشق بالشعارات غير المؤدية إلى مخرجات عملية وإيجابية لهذا المأزق التنموي المربك والمسيء للسمعة. 

فالمرأة حسب أغلب الوضعيات وأعمها داخل هذه البلدان لا تتذوق طعم الحرية، وتتعرض لأسوأ المعاملات، وتخضع لعلاقات فاقدة للاحترام وخارجة عن نطاق الأخلاق المرعية، بما يفقدها مقوم تقدير الذات ويلقي بها في غياهب استبطان العجز عن الاعتزاز بنفسها داخل محيطها. فهي تتعرض لضغوط وجبر داخل المؤسسة الزوجية والأسرة والسياقات المهنية والشارع العام، دون مراعاة لحقها في اتخاذ قرارات مصيرية في شؤونها الخاصة والقبول بالعيش داخل علاقات موسومة بالتعنيف وفقدان الإحساس بكينونتها.

كما تتعرض المرأة للحرمان من التمتع بحقوقها دون مراعاة لإنسانيتها، وهي تتوسم في بلدانها أن تكون في مستوى ضمان حقوقها ومحاربة الأفكار والنزعات والميول والممارسات التمييزية التي تشعرها بوضعها الدوني. خاصة في وقوع حالات الاغتصاب القصوى التي تطرح تساؤلات عريضة بخصوص أحاسيسها ومشاعرها؛ سواء من حيث تمتعها بصفة المواطنة داخل مجتمعات لا تضمن لها الاستقرار والنمو الطبيعي والعادي كأنثى، أو من حيث التعبير عن غياب السلوك التضامني الذي بإمكانه التخفيف من معاناتها وآلامها.

وضع البلدان الإسلامية يتطلب الإسراع بإعادة النظر في كيفيات التعاطي مع مشاكل المرأة التي هي في الأصل مشاكل مجتمعية ذات صلة قوية بالتنمية وتعزيز قدرات الأفراد وتيسير سبل اندماجهم في المحيط، بشكل شامل وعلى نحو مغاير لما يتم اليوم اتخاذه من إجراءات شكلية غير قادرة على ملامسة عمق القضية، فالأمر مرتبط أساسا بتحسين شروط عيش في ظل مواطنة كاملة غير منقوصة وغير خاضعة لأي استثناء أو تمييز. فعديدة هي الأسباب والمسببات التي تدفع إلى تحسين وضع المرأة داخل البلدان الإسلامية وتعزيز مكانتها وقدراتها وأدوارها، وكثيرة هي المشاكل التي تتخبط فيها المرأة بفعل التحولات الجارية في الحياة المعاصرة، ومتنوعة هي تلك التحركات المدنية والسياسية التي دقت ناقوس الخطر وطالبت بإعادة النظر في طبيعة وشكل المعالجة التي يتم اعتمادها لتجاوز الاختلالات التي تنعكس على أوضاع النساء في معيشهن اليومي.

وإذا كانت الجهود، التي تبذل في إطار الحد من التأثيرات السلبية للنزعة الذكورية على واقع المرأة وتكسير قيود اندماجها السلس في مخططات التنمية البشرية والاجتماعية مقدرة من حيث استدراك الانتباه لخطورة الظواهر المرتبطة منها، إلا أنها لا تزال غير مكتملة بسبب استمرار العديد من العقبات والصعوبات. خاصة وأن أمر الانتقال من تلك المقاربات القائمة على إجراءات تعديلية جزئية بل وشكلية في العديد من الحالات يلزمه أن يكون مؤطرا بتصور متكامل لضمان حق المرأة في مواطنة كاملة تكفل شروط تواجد متساو للنساء جنبا إلى جنب مع الرجال داخل الفضاءات الخاصة والعامة، وهو ما يتطلب تعميق المنجز وترصيد التراكم ودعم هذا الورش الإصلاحي باتخاذ مزيد من التدابير الهادفة إلى ملامسة أفق الإنصاف وتكافؤ الفرص والمساواة.

فالقبض على ناصية المشروع الإصلاحي في هذا الباب يجد مدخله في الاستجابة العملية والدقيقة لمجموع المتطلبات والمقتضيات الكفيلة بضمان حقوق وحريات هذه الفئة من المواطنين، دون الخضوع للتشويش وللارتهان لمبررات الرفض والمحافظة والانغلاق، التي في الغالب الأعم تكون مشحونة بلمسة الرغبة في خدمة أجندات إيديولوجية وسياسة على النقيض من المشروع المجتمعي الحداثي والتنموي، خاصة تلك المتمسحة بلبوس دينية أو مذهبية متجاوزة بفعل التحولات الجارية بمنطق التطور البشري في الزمان والمكان.

خاصة مع استحضار الوعي بأن هذا المنحى الرافض لإصلاح أوضاع المرأة في المجتمعات الإسلامية أثبت في غير ما مرة أنه لا يقيم وزنا لاعتبارات الواقع الضاغطة اليوم على النسيج المجتمعي برمته، وكشف عن قصور واضح في التعاطي بموضوعية مع قضايا ومشاكل اندماج المرأة في محيطها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بمنظور جديد يجيب على معضلاتها ويبحث عن طرق وكيفيات تحسين شروط عيشها. وخاصة مع وضوح الرؤية فيما يتعلق بعرقلة مكانتها الدونية داخل الأسرة لمشاركتها في الحياة الاجتماعية بشكل سليم ومساو للرجل، بالرغم من كونها أصبحت معنية بحل المشاكل المادية للأسرة وتوفير متطلبات العيش للأولاد، وبالمشاركة في الحياة المهنية والسياسية جنبا إلى جنب مع الرجل.

وبالقدر الذي تزايدت وتعاظمت مسؤوليات المرأة تجاه محيطها العائلي والأسري، وبالقدر الذي تعددت وتنوعت واجباتها تجاه المجتمع والدولة، بالقدر الذي لا زالت تعاني من مشاكل معقدة بفعل عدم مواكبة مجمعاتها للتطوارت الحاصلة في الواقع، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال استمرار ظاهرة التزويج المبكر للنساء وتقييد حرية اختيارهن وتعرضهن للتعنيف الزوجي وتعدد الزوجات والطلاق غير المبرر وإثقال كاهلهن بإعالة الأولاد وحضانتهم دون تمكين مادي ولا معنوي.

وبفعل التقاعس والتقصير في أداء المهام، وقع تراجع خطير لدى بعض النخب بفعل الاستقطاب والتجييش، فتمت الاستعاضة عن القراءة المتأنية والفاحصة لواقع المرأة وعن الجد والكد في إيجاد الحلول بالخروج إلى الشواع والاحتجاج تحت قيادة المدعين للاختصاص الشرعي، ورفع الشعارات الفضفاضة التي لا تجد لها من تصنيف في قواميس التعبير إلا في إطار الرغبة في خوض غمار تنافس سياسي بدون عمق اقتصادي وتنموي، ووقع الإهمال لضرورة إعادة النظر في النصوص القانونية وتفادي التساؤل عن مدى صلاحية استمرار بعض القواعد المتجاوزة واقعيا وعمليا.

وهو ما دفع في اتجاه تغييب شرط النقاش العمومي الهادئ ذي النجاعة والمردودية في استخلاص الدروس واستنتاج المواقف واستخراج قواعد وأحكام جديدة ومجددة، بناء على ما يقتضيه ترجيح المصلحة المجتمعية العامة وما تتطلبه شروط تيسير العيش في عصرنا هذا.