ليس خافيًا ما تعرّضت له الفنانة لطيفة أحرار، مديرة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، إثر تعيينها في هيئةٍ وطنيةٍ لتقييم جودة التعليم العالي، يعكس ذهنيةً متوجّسةً من كلّ ما هو فنّيّ وإبداعيّ. وما هذه الذهنية إلّا وجْهٌ من أوجه نظرةٍ تُغلّب النمط الأكاديميّ المنغلق على نفسه وتضع درجات الشهادات في مرتبةٍ متعاليةٍ تخوّل أصحابها – في زعمهم – حيازة الحصانة المطلقة في التدبير. لكنّ واقع الحال في دولٍ متقدّمةٍ على درب التكامل المعرفيّ يبيّن بجلاءٍ أنّ حضور الفنان في صلب المؤسّسات الجامعية ليس بدعةً ولا ترفًا، بل ضرورةٌ تُثري البيئة الأكاديمية وتربطها بوجدان المجتمع.
لايغيب عن بالنا الهجوم العنيف الذي طال هذه الفنانة الذي يكشف توارثًا لضربٍ من الارتياب إزاء كلّ من ينتمي إلى عالم المسرح أو السينما أو الفنون على وجه العموم. كأنّ الجامعات حكرٌ على ألقابٍ أكاديميةٍ تسبغ على أصحابها قداسةً، بينما يظلّ الفنّ محصورًا في خانة التسلية أو في أفضل الأحوال «التكميل» الذي لا يرقى لمصافّ «الجدّي». وهذا المنظور يتنافى مع مسار نهضت به مؤسّساتٌ كبرى في بلدانٍ غربيةٍ وآسيويةٍ أدركت ضرورة انصهار المعرفة النظرية مع الإبداع التطبيقيّ. ففي الولايات المتحدة مثلًا، نرى جامعاتٍ عريقةً تفسح المجال أمام كبار المسرحيين والمخرجين ليرأسوا أقسام الفنون الدرامية، ويضعوا برامج تدريسٍ تجمع بين الصرامة الأكاديمية وحسّ المغامرة والتجريب. وفي فرنسا وبريطانيا، ثمة مؤسّساتٌ عليا تُعادل بين البحث العلميّ والفعل الفنيّ، فتستنير بالرؤى الخلّاقة للفنانين عند تصميم المناهج وبلورة خطط الإصلاح.
يجدر التنبيه الى ان ترويج بعضهم لفكرة أنّ الممثّل أو المخرج لا يصلح للنقاش العلميّ أو للتخطيط الاستراتيجيّ يضربُ صفحًا عن حقيقةٍ تاريخيةٍ: طالما كان المسرح بوّابةً لفهم النفس البشرية وتطوّر المجتمعات وثقافاتها، فضلاً عن تمرّسه في نقل القضايا الكبرى إلى الجمهور عبر أداءٍ حيٍّ ومؤثّر. فمن يقف على الخشبة ويُخضع نفسه وفريقه لسلسلةٍ طويلةٍ من البروفات والتجارب، يتعلّم الانضباط والدقّة وإدارة الأزمات المفاجئة والتنسيق بين مواهب مختلفة؛ وكلّها كفاياتٌ لا مناص للمؤسّسات الجامعية منها إذا كانت تروم إصلاح برامجها والارتقاء بتدريسها. ولعلّ تكوين الفنان في أحضان الخشبة قد يمنحه حاسّةً نقديةً حادّةً في رصد الأعطاب البنيوية داخل الفضاء التعليميّ؛ فهو يتمرّن على التقاط الإشارات الدالّة في تعبير الوجوه وحساسية الجماهير، ولا يهادن حين تتطلّب اللحظة كشف مواطن القصور.
يبدو الادّعاء بأنّ مشاركة فنانةٍ مسرحيةٍ في هيئةٍ لتقييم التعليم العالي إنما ينقص من «هيبة المؤسّسة» إنما يدّل على نظرةٍ تُؤْثر البقاء في أسوارٍ عاليةٍ من المعارف التجريدية. فإذا كانت دولٌ رائدةٌ قد جرّبت دمج الموسيقيين والرسّامين والكتّاب ضمن هيئاتها الاستشارية، وخرجت بمقارباتٍ مبدعةٍ تربط الطالب بحركية الواقع، فلماذا نُصرّ نحن على منع هذا الدمج؟ وما الذي يخيفنا في أن يتولّى مخرجٌ أو ممثّلٌ عملية مراجعة جودة المنظومات التربوية، وهو الذي بوسعه أن يرصد مكامن غياب الحسّ الإبداعيّ في المناهج وخطط التكوين؟ إنّ في انفتاحنا على الخبرات الفنيّة فرصةً لتعميق البحث العلميّ نفسه؛ إذ ما أكثر البحوث التي تظلّ حبيسة الورق لتستفيق متأخرةً على معضلة غياب التفاعل مع المجتمع وتحدّياته.
لقد جاءت تجربة لطيفة أحرار كي تُكذِّب مزاعم انعدام المشروعيّة لدى الفنانين في الفضاء الجامعيّ، وتكشف لنا هامشًا واسعًا للتلاقي بين النظرية والتطبيق، وبين اللغة العلمية واللغة الإبداعية. فهي ممثلةٌ ومخرجةٌ حملت على عاتقها مهمّة التكوين الثقافيّ واستحضرت رهاناته داخل المعهد الذي تشرف عليه، فلم يكن إسهامها مقتصرًا على تقديم عروضٍ للمتعة والترفيه، بل امتدّ إلى بناء حسّ نقديّ لدى المتلقّين وفتح آفاق جديدة أمام الطلبة وتشجيعهم على التفكير خارج القوالب الجاهزة. وهذه الخصال عينُها هي ما تحتاجه أي هيئةٍ تُعنى بضمان جودة التعليم: نظرة استشرافية تمزج بين التخطيط الرصين والتحرّر من الاعتقاد الراكد بأنّ المراجع والمجلدات تملك الإجابات كلّها.
لا ريب في أنّ إشراك الفنانين في مؤسّسات التعليم لا يسلب الأكاديميّ مكانته ولا يزاحم الباحث في حقل اختصاصه؛ بل يكمّل جهوده ويُعينه على اكتشاف زوايا مقاربة جديدة. وكم من جامعةٍ مرموقةٍ في أوروبا قد استعانت بكبار التشكيليين أو السينمائيين عند تصميم برامج بيداغوجيّة عابرةٍ للتخصصات، فنتجت عنها مناهج تعزّز الإحساس الجماليّ لدى طلاب العلوم، وتثري منهجية التفكير لدى طلاب الآداب. إنّ الفصل الحادّ بين عالم الفن وعالم البحث العلميّ هو أحد أسباب الجفاء في المنظومات التعليميّة؛ ذلك أنّ الابتكار يتولّد من رحم الاحتكاك. وفي مسار الدول التي تضع الإبداع في صلب سياساتها التعليمية دلائلٌ لا تحصى على أنّ المجتمعات المتطوّرة هي التي تمنح الفنان موطئَ قدمٍ في لجان التخطيط والتقييم، إيمانًا منها بقدرة الإبداع على تهشيم الأسوار الجامدة التي تحول دون تجدّد الرؤى.
على هذا الأساس، ليس موقف الدفاع عن لطيفة أحرار موقفًا سطحيًّا محصورًا في مناصرة فردٍ بعينه، بل هو دعمٌ لرمزية اقتحام الفنانين للمواقع التي تتّخذ فيها القرارات الجامعية الكبرى. كما يمثّل تصدّيًا لأصواتٍ متوجّسةٍ تريد إبقاء المؤسسات التعليمية في سردابٍ لا تغشاه الأنوار إلا بشق الأنفس. إنّ المدرسة والجامعة لا يمكن أن تنفصل عمّا يعتمل في الشارع والمسارح والمتاحف، ولا بدّ لهما من تلقيح الفكر العلميّ بألق الإبداع وجرأته فيطرحان الأسئلة الكبيرة، ويعيدان مساءلة المسلّمات الموروثة.
إنّنا حين نلحّ على تكامل التجربة الفنية والصرامة الأكاديمية، فإنّنا لا نقلّل من شأن البحث العلميّ ولا نهون من قيمة الشهادات؛ لكنّنا نؤكد ضرورةَ أن تتّسع المؤسّسات لكلّ طاقةٍ خلاقةٍ تملك من الجرأة والخيال ما يؤهّلها للمساهمة في هندسة الإصلاح. وما من وسيلةٍ أمضى لكسر قوالب الجمود من إشراك الذين يعيشون الحِراك الثقافيّ اليوميّ ويواجهون الجمهور وجهاً لوجهٍ، فيدركون أهمية التواصل الحيّ ورهافة التعبير وعمق التأثير. وفي مجتمعاتٍ تهفو إلى تنميةٍ شاملةٍ، قد تكون الفنانةُ المديرةُ أو الممثّل المبدع أنسب من يحثّ المؤسّسات على طرح الأسئلة الصحيحة: كيف نربي جيلًا مبتكرًا؟ كيف نعالج الهوّة بين الجامعة والواقع؟ وكيف نتحرر من فكرةٍ بليدةٍ مفادها أنّ الفنّ «ترف» لا مكان له في مساحات الجِد؟
لا بدّ لنا إذن من تلقّي هذا التعيين بوصفه خطوةً جريئةً نحو إصلاحٍ أرحب في التعليم العالي، خطوةٌ ينبغي حمايتها من الضربات المتوالية التي تسعى إلى حصر الكفاءة في زاوية الشهادة. إنّ الفنّان حين يلج المشهد الجامعيّ لا يضيّع الهيبة على المؤسّسة، بل يبعث فيها نفَسًا جديدًا يحفّز أعضاءها على إعادة النظر في طرائق التدريس، وعلى الوصول إلى الطلّاب بوسائل أقدر على ملامسة وجدانهم. وإذا كانت جامعاتٌ عالميةٌ قد أفردت كراسي شرفيّةٍ ومختبراتٍ إبداعيّةٍ لتعميق الصلة بين الفنّ والبحث، فما الذي يمنعنا من السير في دربٍ مماثل؟ أليس من حقّ المجتمع أن يستفيد من رؤى فنانٍ يتلمّس أعماق الذوق والجمال، ويصطدم بأسئلة الجمهور المباشرة، ويخوض مع كلّ عرضٍ تجربةً نقديةً عميقةً؟
هكذا يتبدّى لنا أنّ الدفاع عن لطيفة أحرار في موقع المسؤولية ليس إلّا دفاعًا عن المستقبل الذي تتكامل فيه أدوات البحث العلميّ مع آفاق الإبداع، وتتعاضد فيه روح الخشبة مع رصانة المختبر. إنّ أقسى ما يتهدّد منظومات التعليم في بلداننا هو أن نظلّ حبيسي عقليّةٍ تحتقر الفنّ وتعدّه قرينًا للمجون، في حين تؤكّد التجارب الدولية الرائدة أنّ الفنون تمنح الجامعات قيمةً مضافةً وتعزّز قدرة الطلبة على إنتاج المعنى وتصريفه في الحياة العملية. ومن ثمّ، فإنّ كلّ تعريضٍ أو استهزاءٍ بجدارة هذه الفنانة يختزل الخوف من إخضاع المسلّمات للدرس النقديّ، ويُطلق صفّارة الإنذار كي تبقى أبراج الجامعات عاجيةً معزولةً عن الواقع. ولعلّ أبلغ ردٍّ هو أن نشدّ على أيديها ونوسّع الدائرة لاحتضان مزيدٍ من صنّاع الجمال والفكر الخلّاق؛ فبذلك فقط نهيّئ أجيالًا جديدةً قادرةً على إعادة صياغة الحاضر ومدّ الجسور صوب مستقبلٍ أرحب.