لنكن أكثر صراحة ووضوحا، وليعذرنا كل من يلمس في نفسه الإرادة والقدرة على الانخراط فيما يسمى بجمهور العلماء والفقهاء والدعاة والمرشدين الدينيين، وليقنعنا خطباء التحليل والتحريم الذين ملأوا منابر الإعلام ومواقع التواصل، بما بذلوه من جهد ليس في المنافحة والجدال العقيم مع مخالفيهم في التفكير أو الرأي أو الاعتقاد، باعتبار ثانوية هذه الوظيفة في الدين، بل بما أفادوا به عموم الناس بواسطة الإقناع والترسيخ والتقوية والتعزيز الإيماني والأخلاقي والتعاملي بالتنشئة والتربية والتأطير والتوجيه، كي لا تتناقض أقوالهم وأفعالهم في معيشهم اليومي مع معتقدهم في أبعاده المقاصدية العامة والحكم الإلهية الواعدة!
فمن كان قلبه فعلا على المعتقد الديني، كان الأجدر به بذل جهد لتشذيب المعتقد ممّا عَلِق به من خرافات وأساطير وتناقضات في الممارسة والتصرف، بما يَحُدُّ من ارتماء الناس في أحضان الجهل والأمية والتخلف وإعاقة جهود الإقلاع والإنماء والتغير والتطور.
ومن كان اعتقاده راسخا بما يقوي لديه درجات التقوى والعفة، كان الأليق به الدفع في اتجاه تجسير العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم، لتمكين عموم الناس من تملك مقومات البحث العقلاني عن التعايش بسلام واحترام في ظل التنوع والاختلاف البشريين الذين اقتضتهما الإرادة الإلهية. ومن كان همه التقرب إلى الله بفعل الصالح من الأعمال، كان عليه أن يُفصِّل القول فيما قام من تعارض صارخ بين المعتقد الديني كخيار إرادي للإنسان وبين العنف كانقياد جهادي قهري يَحْرِم النّاس من ظروف وشروط الابتلاء، ومن توفير إمكانيات تحمل مسؤولية اختيار الأفعال والأقوال والتعاملات.
أما ما طفا على سطح الهرطقات الكلامية ذات الصلة بالتعارضات القائمة بين الدين والقانون، فما هو إلا تعبيرٌ عن عجز غير مسبوق في تاريخ التفكير الديني من حيث مواكبة التطور كسنّة في الحياة، وتَمَثُّلٌ لنوع من الدهشة أمام ما يبرز من ظواهر تبدو لبعض المفتين وكأنها غير قابلة للتأطير بالأحكام والقواعد الشرعية، بسبب الاستكانة إلى التقليد والابتعاد عن الاجتهاد كأسلوب اعتمده السلف منذ انقطاع الوحي بذهاب المُرسَلين.
فما كان مأمولا من البشرية هو إيجاد سبل للتعاون بين الأديان وتكيفها مع تجارب وخبرات العقل البشري، لتجويد شروط عيش الناس في هذه الحياة، لا أن يتم الدخول في معارك طاحنة مع غير المعتقدين أو المخالفين في الاعتقاد أو المذهب أو الرأي أو الموقف أو الحكم الشرعي.
فما الاعتقاد الديني إن لم ينتظم في سلوكيات وممارسات إنسانية وأخلاق؟ وما الإيمان إن لم يُعْطِ معنىً لحياة الناس؟ وما الأحكام الشرعية إن لم توفر قواعد القوة لبقية الحياة البشرية؟ وما المنظور الديني إن لم يكن مفسرا للأسس الوجودية للكائن البشري؟ وإن لم يشكل قاعدة التزام لما يعتنقه المُتديِّن من فكر ومبادئ؟ وإن لم يُقدِّم المتدين إجابات أكثر شمولا لمشاكل الناس وآمالهم؟ وإن لم يكن للمتدينين تصورا للعالم وللممارسات البشرية؟ وإن لم يكن مجموعة من الأفكار المجردة والقيم أو التجارب القادمة من رحم ثقافة إنسانية؟ وإن لم يكن رؤية للعالم تحكم أفكار وأعمال الناس؟ وإن لم يكن قانونا أخلاقيا أو شريعة قيمية تشمل أخلاقا وأحكاما قابلة للاتباع من قبل الناس؟ وإن لم يكن هناك انسجام بين ما تقوله وتفرضه نصوصه وبين ما يمارسه الناس في حياتهم باسم الدين ذاته؟
إن القراءة المتعمقة لتاريخية المفهوم الحقوقي وتداخله مع الدين تتجاوز الحدود الفاصلة بين الثقافات والمرجعيات. وهو ما كان ولا يزال يتطلب تفاديا لردود فعل تجاه مفاهيمه وقيمه التي لم تُدرَك أبعادها العميقة بعدُ لدى الكثير منا، والتي ولدت أسباب مواجهة مغلوطة بين الإسلام والغرب حول الحرية الدينية والديمقراطية والمساواة.. دون الغوص في إمكانية تجسير العلاقة بين التنشئة الدينية وحقوق الإنسان، ودون التساؤل عن علاقة الخطاب الديني بمفاهيم الحق وترسيخها بموازاة مع تعزيز مفهومي التّكليف والواجب.
وهي مهمة مركزية في قلب اشتغال "العلماء" على تحويل النص الديني وتشكيل عقل أخلاقي واعٍ بمساهمة السلوك المعاصر في الحيلولة دون حدوث التنافر والتعارض مع مرجعيات وأصول ومفاهيم التوجيه الديني للمعاملات الجارية بين الفرد وذاته وبينه وبين الناس وخالقه. وهو رهان أخلاقي يقتضي عقلنة جديدة في بناء التوجيه الديني لخدمة الوعي الجمعي من حيث ترسيخ المفهوم الحقوقي.