ما أسوأَ أن يُقِرّ المرء بالشهادتين، ولا يتوانى بعدها في جعل الله عرضة لأيمانه على الكذب والبهتان والغش والتدليس، بل ويقسم أمام هيئات القضاء على الزور وإيذاء الناس وظلمهم. وأقبح ما يمكن حصوله بعد صلاة الجماعة بالمسجد هو سرقة أحدية المُصلِّين.. والأشنع أن يُسرَق النّاس من قبل مُؤتمَن على شأنهم ومالهم وآمالهم، دون أن يثير فيهم غضاضة. وفي المقابل تُقام الدّنيا وتُقعَد على إقامة حد السرقة في حق مُعدَم أو جائع.. والأبشع أن يؤدي المرء حجّه وهو مُستمتِع بالكسب عن طريق التهريب والاتجار في المخدرات والبشر، ومُتباهٍ بالتهرب من أداء الضرائب، ومُتفرِّغ لتكديس الأموال بالاحتكار ومراكمة الثروة بالنصب والاحتيال والغش والغرر، ومُعْرِض عن الإنفاق مما يحب لنفسه وزاد عن حاجته.
والأفظع من هذا وذاك، أن يتطلع المرء للتقوى والعفة والورع بمسلك الخيانة وهتك الأعراض. فهل يعوذ بالله من شرور نفسه وسيئات أعماله من لم يعد هَمُّه إلا تحصيل المال والطمع والإفساد؛ بإخفاء عيب وحلف على كذب وسمسرة وخداع وبيع فاسد وإضرار بصحة الناس وإجهاز على ممتلكاتِ غيرٍ.. وتعميمِ إفقادٍ للثِّقة في المعاملات والعلاقات والمؤسسات؟
هذا هو واقع حال المُتديِّنين اليوم، في غياب إثبات صحة إسلامهم بسلوكات نبيلة، وفي حضور كل ما لا يليق من الصفات التي تنهى عنها نصوص القرآن، وفي تجاهل لكل معاني هَدْيِ المحبّة والإخاء والألفة داخل المجتمع.
وفي ظل استفحال غياب الأمن الأخلاقي والاجتماعي بين الناس، وتزايد حدوث هذا الانفصام في حياة المسلمين بين ما يتحدثون به دينا وما يتعاملون به واقعا وسلوكا، وقيام معاملاتهم المالية على الغفلة، وانهيار سياج الأمان من آداب وضوابط شرعية وأخلاقية. فقد كثرت الجرائم التي تُرتكَب باسم التجارة والبيوع وبفعل التضليل والتدليس ونشر الغش والخيانة في البيع، دون أن يشكل ذلك ناقوس خطرٍ وتنبيهٍ مُوقظٍ لانتباه "المجتهدين"، ودون أن يدفعهم إلى بذل جهد ووقت للاجتهاد في استبدال ضميرِ المُكلَّف بآليات مراقبةٍ وضبطِ معاملات.
أيمكن للدين أن يوصل الناس إلى هذا الاضطراب الوجودي الشديد؟ وإلى هذه الوضعيات الحرجة التي تضطر المجتهدين إلى تفسير النصوص الدينية على هواهم؟ أم أن متديني القرن الواحد والعشرين أصيبوا بهلوسات وأوهام واضطرابات مُبالِغة في التفكير والسلوك بالشكل الذي أصبح يعرقل الأداء الوظيفي للنّاس في معيشهم اليومي؟ وهل من علاج للمصابين؟ أم ينبغي التغاضي عما تفاحش من إصابات بفعل اليأس من إصلاح هذا الجيل، والتفكير بشكل جدي في إجراءات وقائية وعلاجات مبكرة للصاعد من الأجيال، قبل فقدان السيطرة على تشوهات التدين الخطيرة، وتفاديا للمزيد من تشويه المظهر الديني على المدى البعيد؟ هذا دون الحديث طبعا عن فضائح الفساد المُدوِّية التي تهزّ أركان الحركات الدينية فيما يخص علاقتها بتدبير الشأن العام، والفضائح الأخلاقية والقانونية لأطرها الحزبية.
تُعرَف الديانات السماوية بما أنزل الله ممّا يَسُوق إلى الحق في المعتقد والحُسْن في المعاملة والسلوك، ويؤدي إلى جزاء الدنيا والآخرة. وتُقرَن بطاعة الله ورسله المتمثلة في التقوى والبر وحسن الخُلق. وهي بذلك لا تحيد عن دلالات الهداية والاستقامة والابتعاد عن الاضطراب والجزع، كما أنها لا تزيغ عن معاني الخير الذي يعمّ بانتشار واسع للعدل والمساواة من خلال التّشريع وحفظ الناس من الانجراف وارء الشهوات والزلاّت. وإذا كان الأمر كذلك، أليس حري بنا التساؤل عما إذا كان الدين، على الأقل في الوقت الراهن، يشكل ملجأ للإنسان من هموم ومصاعب الحياة، ويبعث على الراحة والطمأنينة والسعادة في نفس الإنسان بالشاكلة التي تُعَدّ خارطة طريق إلى جنات الخلد؟ وهل يجعل الدين للإنسان معنى في هذه الحياة؟ وهل في واقع المؤمنين وعموم المُتديِّنين ما يحمل على تأكيد حقيقة تهذيب الدين لنفس الإنسان، وجعله مُتحكِّما في نفسه من خلال الإقبال على الطاعات والابتعاد عما يغضب الله من أعمال واتباع للشهوات؟
إن ما يجري على الأرض، وما يصدر عن المعتقدين من تقاليد وعادات وتصرفات وسلوكات وعلاقات وتفاعلات، سواء داخل محيطهم الخاص أو في العلاقة بالمحيط العام، لا يُعزِّز في الغالب منحى تعميق الروابط الاجتماعية في نطاق الأسرة والمجتمع والعالم، ولا يقوي المعاني الأخلاقية بين الأفراد والجماعات عبر التعاون والتكافؤ والمحبة، ولا يُرسِّخ ميلا نحو أي تأثير إيجابي على حياة سلمية آمنة مستقرة وضامنة لكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته. وإذا كان الغياب يطال هذه الأسس الاعتقادية ومقاصدها العامة التي اقتضتها المشيئة الإلهية، وإذا كان واقع التدين لدى عموم الناس بعيدا عن التنشئة والتربية الدينية وعن تأطير وتوجيه المنشغلين بالحقل الديني، ألا يجوز طرح التساؤل المركزي الهام عن أهمية رجال الدين وأدوارهم ووظائفهم في حياة الإنسان؟ أم أن مثل هذه الدقة القصوى في طرح الأسئلة لا زالت تصطدم بالتباسات عامة غير قابلة للاقتحام؟