فن وإعلام

“مول الماء”.. سبعيني وقور يقاوم عطش سكان الصحراء

أحمد القاسمي (عن الجزيرة الوثائقية)
يرافق المخرج المغربي فؤاد السويبة بطله البشير بلقايد، وهو يوزع الماء على البدو في الجنوب المغربي، فيرافقه وهو يجوب الصحراء، ويواجه العراقيل الكثيرة التي تحول بينه وبين أداء رسالته.

وبتتبعه في حله وترحاله، ينشئ صيغة فيلمية مركبة من أنماط سينمائية شتى، تتعاقب فيها المشاهد وتتدرج من وضعية إلى أخرى مغايرة، لتشكل سيرة ذاتية لمن لُقب “سيد الماء”، أكثر من رسم بورتريه له فحسب.

ولهذا الاختيار تبعاته الفنية، بحيث يتماس الوثائقي في الأثر مع الروائي، ليولد دلالات كثيرة، نحاول أن نتقصى بعضها في ورقتنا هذه.

البشير بلقايد.. سيد الماء السبعيني الوقور

يبدأ الفيلم بعرض صورة غائمة لشخصية البشير بلقايد، ثم يُتبعها بلقطات له وهو يعجن الخبز، لترسيخ فكرة قيامه بأعبائه المنزلية بنفسه. وحالما ترتفع الكاميرا لتلتقط ملامحه، نكون أمام شيخ سبعيني، يبدو الوقار بيّنا على ملامحه الخشنة، لكنه يختلط بآثار حياة قاسية عاشها الشيخ، ولا شك أنها تتواصل حتى اليوم.

تعرض المشاهد اللاحقة حركته في المكان، التي تؤكد عزلته، فنراه يطبخ الخبز في التنور التقليدي بنفسه، أو يبحث عن تواصل ما مع المحيطين به، فيقيم أذان الفجر في باحة منزله الريفي المتواضع.

هو بلا عائلة لا شك، لكن هل هو أرمل؟ هل تخلت عنه أسرته؟ فمن يكون سيد الماء إذن؟ ولماذا يعيش على درجة الصفر من الرفاهة، على مستوى المأكل والملبس والأثاث؟

شاحنة مرهقة تشرئب لها الأعناق

بلمسة روائية تنفذ إلى باطن الشخصية، يعرض الفيلم الهاجس الذي يجول بخاطر الشيخ، ويرافق عزلته ويعكر مزاجه، فشغله الشاغل إنما هو شاحنته المتهالكة، التي تأبى الانطلاق كل صباح، والطريق طويلة، وثمة من ينتظره في الأصقاع البعيدة على أحر من الجمر.

بعد أن يعد البشير فطور الصباح، يوقظ مساعده محمد سالم ليضبط برنامج اليوم، فهما سيذهبان إلى طانطان لملء الشاحنة من مياهها الجوفية، ثم يتوجهان إلى المخيمات الجنوبية، لتوزيعها على السكان هناك.

يحرص الشيخ عندئذ على تحفيز مساعده، ليستعيد نشاطه ويتهيأ للرحلة الطويلة، ثم تنطلق مغامرته، ولكن يحدث ما كان يتوجس منه، فتتعطل الشاحنة وتستوجب مساعدة عاجلة من الميكانيكي.

ثم تبدأ رحلة البحث عن الماء في آبار الصحراء من جهة العيون والساقية الحمراء، وتأخذنا إلى مخيمات سكان الصحراء الغربية، فهناك يتطلع الجميع إلى مقدمه، وتشرئب له أعناقهم.

“مول الماء”.. اعتزاز بمهنة تبرد فيح جهنم

يذكرنا البشير بلقايد بمهنة السقاء في تراثنا القديم، حين يختلط بالناس حتى يكاد يصير واحدا منهم. ولكن لطبيعة الفضاء الصحراوي وللحاجة الملحة للماء وعسر إيجاده، تتجاوز علاقة البشير بزبائنه البعد المهني السطحي، وتصبح شعورا عميقا بالمسؤولية يختزل أبوّة حانية.

فليست حياة الشيخ بائسة، وليس يعيش درجة الصفر من الرفاهة، ولا عزلة اجتماعية كما توهمنا في المشاهد الأولى، بل إن المَشاهد اللاحقة تكشف ما يعيشه الشيخ من بذخ على مستوى الشعور، فهو يدبر الأمور ويتجاوز العراقيل، لإيصال الماء لمستحقيه في الجنوب، وإرواء العطشى.

وهو في حديثه إلى مساعده يعبر عن التزامه هذا بفخر، فلا شيء يمكن أن يفصله عن رسالته تلك، لأن حبها يسري في دمه.

مع تعاقب الأحداث ينجلي الغموض عن معنى عنوان الفيلم، ففي العبارة المحلية “مُول الماء” هو صاحب الماء، إشارة إلى ما يميز هذا الشيخ من الإيثار، فإذا الحاجة المادية تخفي رفاهية الروحانية، وقناعة بأنه صاحب رسالة يقدم للناس ما به يكون كل شيء حيا.

وضمن هذه الخلفية الدينية يكون “الناس شركاء في ثلاثة؛ النار والكلأ والماء”، وفق الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود. فقدر الشيخ أن يوصل الماء إلى مستحقيه، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، ويكون الماء دواء.

وقد روت عائشة رضي الله عنه أن الرسول ﷺ كان يعالج الحمى بصب الماء على المريض ويقول: “الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء”.

ومما أخرج النسائي والحاكم قوله: “إذا حُمّ أحدكم فليسنّ عليه من الماء البارد في السَّحر ثلاث ليال”. وهل الصحراء من دون الماء إلا كفيح جهنم دون ماء؟ لذلك يرتفع صوت الشيخ المطمئن بالأذكار والتسبيح وتلاوة القرءان، ويخترق أذانه عزلة الصحراء، مناديا أنْ هبوا إلى الفلاح.

جنازة مجازية لمهنة تواجه الانقراض

يمثل الفيلم في بُعد من أبعاده محاولة لحفظ الذاكرة، وتثبيت مهنة تواجه خطر الانقراض، مع الحاجة الشديدة إليها، بسبب عزوف الشباب عنها. ومن هذا الهاجس يضبط الشيخ دور مساعده وسائق شاحنته الشاب محمد سالم.

فرفقته في الامتداد الصحراوي الهائل تضطلع بأكثر من دور، فهي محفز للشيخ للقص، وللمخرج لعرض تجربته على المتفرج، بما ترمز إليه من التضحية والعطاء. لذلك كثيرا ما يتابع محمد سالم شيخه صامتا، فيستدرجه بصمته إلى مزيد من الإفضاء، فتكون جسرا ينقل منه إلى المتفرج الشغف والخبرة.

وهنا تقتحم لمسةٌ روائية التوثيقَ، فتتوقف الشاحنة المتهالكة، وتفقد القدرة على مواصلة المسير. يحدث ذلك بجانب المقبرة، وتصر الكاميرا على جعل الشاحنة في الواجهة والمقبرة في الخلفية ضمن لقطة واسعة.

يأتي أطفال الحي لدفع الشاحنة المعطوبة، فيشكّل المصور من ذلك جنازة مجازية، تأخذ “جثمانها إلى مقبرة العربات”، لتعلن نهاية صلاحيتها ونهاية دور الشيخ.

الشاحنة المعطوبة في وسط مقبرة أموات البشر وفي الخلفية أموات العربات

بعد ثلاثة أشهر، يطل علينا الشيخ البشير بلقايد في الطريق العام، فيبدو مهموما هائما على وجهه، تمر حوله عربات كثيرة لا يكترث بها، ثم تتوقف شاحنة جديدة، وإذا براكبها رفيقه ومساعده محمد سالم، فيأخذه معه هاشا باشا.

وهكذا تبدأ دورة حياة جديدة لتوزيع المياه على المخيمات، بطلها الشاب، ضمن رحلة خالية من الأعطاب ومشاكل الطريق، أو هكذا تعدنا العلامة المعلقة بباب الشاحنة على الأقل “طريق السلامة”.

ينتهي الفيلم بالأذكار والابتهالات التي تعكس رضا الشيخ عن النفس، بعد أن أكمل رسالته على أحسن وجه، فقد استطاع أن يورث رفيقه شغفه، وأن يسلمه المشعل ليواصل المهمة بعده.

عالم الشخصية.. رسائل الفيلم الفلسفية العميقة

يستمد الفيلم أهميته فنيا من صناعة صيغة فيلمية مبتكرة، تكون لبناتها الأساسية وثائقية، ويكون عمقها روائيا، فثمة ظلال كثيرة مستمدة من بنية أفلام الطريق، التي تبدأ ببداية الرحلة وتنتهي بنهايتها.

أما الوسط فهو موطن المغامرة، وفيه تواجه الشخصية أحداثا مثيرة وتحديات غير متوقعة، فتتحول الوقائع من رحلة يقطعها البشير بلقايد في الفضاء الخارجي، إلى رحلة يجوب فيها المتفرج عالم الشخصية الباطني، الروحي والنفسي والذهني.

يطعم هذا الاختيار بخصائص سياقة الشاحنات العابرة للمسافات الطويلة، وتلك مهنة مثيرة تتطلب كثيرا من الصبر والتحمل والشغف، وتفتن محبي التجدد والاكتشاف المستمر. وليس المثير فيها إيجابيا دائما، فللطرق مفاجآتها وإكراهاتها.

ومول الماء -كعامة سائقي الشاحنات- يجعل علاقته المباشرة بالفضاء بديلا عن الحياة الأسرية، فلا ينعم بجمال صحراء طانطان وأخفنير وغيرهما من أقاليم جهة العيون والساقية الحمراء بجنوب المملكة المغربية فحسب، بل يواجه قسوة الفضاء الصحراوي، فتتعطل شاحنته ويقضي الليل على حافة الطريق، في انتظار المساعدة التي قد لا تأتي سريعا.

ومن طبيعة الفضاء، يعرض المخرج ما تتميز به شخصيته من الاستقلالية والإقدام على المغامرة، ومن نزعة إلى مواجهة الوحدة بتأمل الطبيعة والوجود، بحثا عن المغزى من الحياة الدنيا.

وانطلاقا من تنزيل الشخصية في الفضاء وفي الزمن وعرض أفعالها وأحوالها، يكتسب الفيلم خاصية السرد، فلم يكن المخرج فؤاد السويبة يسرد وقائع عالم الشيخ إلا ليفهمها على نحو مخصوص، وليجعل زهدها في المتع المادية سبيلا إلى اكتشاف المتع الروحية، التي باتت ثقافة الاستهلاك تحجبها عنا.

حياة الصحراويين في خلفية المشهد.. المعيشة والقيم

لم يكن المخرج فؤاد السويبة يحرك الشيخ في واجهة المَشاهد، فيجعله يجوب المخيمات، إلا ليوجه من خلاله الأنظار إلى حياة الصحراويين، الذين يظهرون في خلفيتها. فيعرض تمسكهم بالحياة البدوية البسيطة الحرة، بعيدا عن “دنس” المدينة وقيودها، مع ما يواجهونه من العطش وقسوة الطبيعة.

وتختزل الخيام التي يُستقبل فيها الشيخ كل هذه القيم، وتمثل تأصيلا للهوية الصحراوية، فضلا عن اتخاذها مقرا وسكنا، ففي انفتاحها وبساطة مكوناتها تجسيد لانفتاح البدوي على الزائر وتلقائيته.

ولا لقاء عند هؤلاء من دون شاي يوزع بينهم، فيشكل طقسا مشابها بطقس القهوة العربية في الشرق، ويرمز إلى كرم الضيافة، ويمنح جلساتهم أنسها وحميميتها، ويكسبها معنى الترابط وتقاسم المصير.

ويسهم الفضاء في تشكيل تصوراتهم للوجود، وتوجيهها نحو القيمة الإنسانية الكبرى؛ ألا وهي الحياة. فالصحراء شرقية كانت أو غربية تفرض قيمها على قاطنيها، وتجعلهم أميل للتكاتف والتآزر والتضامن.

فترى صيادي الأسماك يجودون بغلتهم من الصيد على الشيخ ورفيقه الشاب، عندما تعطب شاحنتهما، ويقضيان ليلتهما في العراء، فتكشف الهدية البسيطة بعدا إنسانيا عميقا يحمله هؤلاء البدو.

وخلف هذه المعاني معانٍ أخرى على صلة بالسياسة، ولكنها ترِد متخفية كامنة تحت الطبقات المباشرة. فهل المخرج حذِر من الخوض في الممنوع، أم أنه يفضل الإيحاء على الخطاب التقريري الذي يفسد سحر المعنى؟

فهؤلاء الذين يعمرون الجنوب أغلبهم من أصيلي الصحراء الغربية المتنازع عليها، أما الشيخ فكان يحاول أن يملأ الفراغ الذي تركته مؤسسات الدولة الغائبة تماما، فيقتصر حضورها على أعلام ترفرف متزاحمة على سطوح المخيمات.

شح الماء في أقاليم المغرب الكبير

قد نتساءل: ما الذي يشد المخرج فؤاد السويبة إلى هذا السبعيني الذي يجوب الصحراء ليبيع الماء؟

نقدر أنهما عاملان متوازيان؛ أولهما روحانية الرجل التي نعرف، ولا شك أن السويبة أسهم في تشكيل صورة الشيخ على النحو الذي يوافق تصوره لرسالة الإنسان في ظل التحديات الراهنة.

وثانيهما مادي، فعلى هامش الفيلم تُطرح قضايا عدة ولكن العطش الذي يهدد الصحراويين وشعوب المغرب الكبير يبقى على رأسها، فالمصدر الأصلي للمياه في شمال أفريقيا يتأتى من تساقط الأمطار، ومن تجمّعها في شكل مياه جوفية.

فهذه المنطقة عموما تفتقر إلى الأنهار الكبيرة، لذلك تتأثر تأثرا عميقا بمشاكل الاحتباس الحراري، وتُدرج ضمن بلدان الفقر المائي.

نهاية الفيلم.. نهاية دورة وبداية أخرى

ففي السهول الشمالية يتراوح متوسط تساقط الأمطار بين 400-600 مليمتر سنويا، وينخفض تدريجيا ليصل في الجنوب إلى ما دون 100 مليمتر. ومع كل محاولات إرساء السياسات المائية، يظل العجز المائي يتفاقم باستمرار، ويقترب الشمال الأفريقي كله من الإفلاس المائي.

من هذا الهاجس، يحاول الفيلم خلق ملحمة عنوانها “الشيخ والصحراء”، ومتنها تعاون الصبي وعامة الأهالي مع الشيخ المعلم وتآزر محيطه معه، فيكون بطلها أكثر حظا من بطل “إرنست همينغواي” في روايته “الشيخ والبحر”.

ولا ندعي أبدا أن فؤاد السويبة عمل على خلق هذا التشابه بقصد ونية، ولا نتورط في الحكم المعياري، ولا نزعم أن الفيلم قد ضارع هذا العمل الخالد، ولكننا نرى أن الجامع بين الأثرين هو بحث الإنسان عن المعنى في الفضاء الممتد بلا نهاية (بحرا كان أو صحراء)، أو الزمن المتناقص نحو النهاية (العمر الذي يمر، والشيخوخة التي تزحف باستمرار نحو الموت).