والثابت اليوم بما لا يدع مجالا للشك، هو ابتعاد التنشئة الدينية عن إنتاج أناس واعين بعالمهم الواقعي وضروراته الأخلاقية، فأصبح المجال لا يتسع سوى لتحرك الواقع وفرزه للمزيد من قيم السَّلب والتَّنميط والتَّدمير. وهذا طبعا مؤدى الانغلاق الأخلاقي والانصياع لمتطلبات التقاليد والعادات السائدة وإلجام فاعلية الفرد والعقل والمجتمع الحر.
فهل تساءل الخطباء والوعاظ والدعاة، وقبلهم العلماء والفقهاء، عن أسباب وتداعيات أزمة القيم في مجتمعاتنا وعلاقتها بالدين؟ أم أن انشغالهم كان وقفا على تصدير هذه الأسباب وإرجاعها للغرب والإلحاد والصهيونية والعلمانية واليسارية...؟ وهل اعتبروا أنفسهم معنيين بالبحث عن سبل ولوجِ عالمِ نقدِ تقصيرِهم في هذا المجال وإعادة النظر في القيم السائدة وربطها بما هو نسبي أخلاقيا؟
ألم يتفهّم القيّمون الدّينيون لحد الآن دور المنظومة القيمية في بناء رؤية للعالم، وحدود مسؤولية التقصير المؤدية إلى تفريخ عوامل الخضوع للتقاليد والأعراف البالية، وإنتاج الغلو والتطرف والعنف والتسلط في اعتماد الأحكام الشرعية، وإضعاف الأسرة فقها ووعظا وإرشادا من حيث القدرة على تصريفها للقيم الإيجابية والمعاصرة للناشئة، وشحنها بقيم سلبية وتدميرية لها انعكاسات كارثية على المجتمعات برمتها؟
فكثيرة هي المشاكل ذات الصلة بالتشتت بين الأفراد ونزوعات الأُسَر وتعاليم الدين، من حيث عدم إبراز التنشئة الدينية لقيمة الاستقلالية والحرية لدى الفرد، وعدم جعله يلمس إحساسا بإرادته وقدراته الذاتية. خاصة في ظل التشويش الذي يلقي بالفرد في معارك حسم الاختيار بين المُوجِّهات الدّينية والسياق الاجتماعي والموروث الثقافي من ناحية، وأبعاد الشروط الزمانية والمكانية للقيم الحقوقية وتصاعد وتيرة الممانعة والرفض لها ورد الفعل ضدها من ناحية أخرى. ليقع بذلك نوع من الانحسار الفكري والثقافي والقيمي داخل المجتمعات.
وكأنّنا كنّا في شبه طمأنينة من أمرنا وهدوء وسكينة. وكأننا كنّا في غير حاجة إلى تفكير بالمطلق. إلى أن ألقي السؤال ببركتنا الآسنة، لتتردّد أمواج قلقنا على سطح مياه راكدة. فأحيانا يتهيأ لنا وكأنّ الأوضاع هادئة والأمور سائرة في اتجاه الإصلاح. لكن، ما أن نستحضر ما هو شائع اليوم من ممارسات وتصرفات، حتى نتفطن إلى أن ذاك هو الهدوء الذي عادة ما يسبق العاصفة. فقد كنا نائمين على جنب ما اعتقدناه راحة، إلى أن أيقظنا كابوس الوجود، فتبدّى لنا أنّنا لا نستشعر الخطر إلاّ بعد أن تملأ التفاهة حياتنا، ويصبح المُتعلِّم منّا عوض أن يُكفِّر عن السخافة التي يغرق فيها يزيدها استعلاء وغرورا.
أَرْعَبَ البعضُ منّا الرّهانُ على التّجديد الديني والتنوير العقلي في علاقتهما بمركزية الإنسان والدفاع عن القيم الكونية وتثبيت المفهوم الحقوقي في نسق التربية والمعاملات الجارية. وأدهشه مطلب الارتكاز على مقاصد التراث الديني التنويري ومعالم الغايات الأخلاقية في التنشئة خارج حدود الإيديولوجية الضيقة. وزعزعت قيم حقوق الإنسان تفكيره بطرحها قضايا جوهرية للنقاش. وما عاد هذا البعض مستعدا للإنصات وفهم الملابسات.
وفعلا، لم نلحظ أو ندرك وجودنا وغياب معناه، إلا بعد خلع نظارات رسوخ الاعتقاد والتمكن من رؤية الأشياء بتجرد، والاندفاع للخروج من مستنقع الحُجُب والأقنعة التي ابتدعها المُتديِّنون من حولنا. ليظهر أنه في الوقت الذي كثُر النُّصح والإرشاد وتعالت الأصوات من المنابر والخطب للتأكيد على ضرورة استقرار العلاقة بالله وتعزيزها، ازدادت نسب التّأرجح في هذه العلاقة بالعديد من التصرفات غير المسؤولة والحاطّة من الكرامة الإنسانية بكل أبعادها.
وكأننا بالفقهاء والخطباء والوعاظ والدعاة يُدحرِجون الدين لإخراجه عن نطاق الوجود الإنساني وتاريخه، ويدفعون النّاس إلى الشعور بالخزي لمصاحبة مُتديِّنين لا طعم لهم ولا لون ولا رائحة، إلا ما يصدر عنهم من إساءة للدين ذاته. وهو ما يُظهر أنّ واقع التدين كارثي وفوضوي، يُقوِّض العلاقات بين الناس، ويجعل الكثيرين ينظرون بانتقاص للدين لما يُظهره التدين من تجليات للامسؤولية، ويدفع بهم إلى حافة القلق والتّوتر. وقد لا يكون لذلك من تفسير سوى أنّ العالم تغير وتنوع، ومعه تغيرت خيارات النّاس، فراحت تَنْسُج علاقاتها وتختار صداقاتها خارج مدار المعتقدات والمبادئ والقيم، بما يُؤمِّن لها تحصيل ما تيسّر من كسب ومصالح.