قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق: تحديات عصر وأسئلة مجتمع

سامر أبو القاسم

نعيش حاضرنا على وقع تحدٍّ فكري غير مسبوق، لا زال يصيب تفكيرنا بانكسارات وجودية وهزائم حضارية لا يمكنها سوى إعاقة كل خطوة تهدف إلى حلحلة الوضع والسّير به إلى الأمام. فلا استحضار ماضينا عرف كيف يتخلص من الارتهان له بقراءة متزنة للفاعلية والحركية الإنسانية والتجدد، ولا استشراف الآفاق المستقبلية عرف كيف يتجاوز التسرع واستباق مجرى التطور بما يقيم وزنا للتاريخ والمكان بشكل يُجنِّب الاصطدام ويبعث الروح في التأثير عبر التّدرج في طرح أسئلة التقدم.

لذلك، لا زلنا نراوح مكاننا فيما يتعلق بتلك العلاقة المصيرية التي يمكنها أن تعكس وجودنا الإنساني وأبعاده في الزمن الحاضر العاجِّ بالأسئلة التي تطرحها ضرورة تجددنا التاريخي. وفي قلب هذه المعادلة المختلة تعيش الأسرة أزماتها في صمت، لتتفجر مشاكلها بشكل متصاعد، إما كظواهر وتعبيرات اجتماعية منعزلة، وإما كقضايا مؤطرة لنقاشات ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وتربوية وقانونية مصيرية، بل وحتى دينية بأبعاد هوياتية كما في حالة البلدان الإسلامية.

وقد نجزم منذ البدء بأن النقاش والتداول لا يحتاجان إلى وقت وجهد كبيرين إن كانت القضايا العالقة معلومة والاقتراحات العملية متواجدة، فالحوار عادة ما يشكل مجالا للإنصات المتبادل والتطارح المفتوح والصريح حول الحاضر، وهو بذلك محطة للتفكير الجماعي جهرا في آفاق المستقبل. فترصيد المنجز بمنظور إصلاحي، وتأطيره بنفس استشرافي، ورصد معيقاته وثغراته وأخطائه بعيدا عن أية نوايا مبيتة، يجنب السقوط في التوجس من مسار الإصلاح ذاته، وينأى عن التورط في مشاكل وافتعال توترات لا أثر لها سوى الحد من إمكانات تحقيق الغايات والأهداف.

إن التخطيط والتنظيم والتمكين لمن الأمور التي تعد آليات مسعفة في إكساب المهارات والعادات الانفعالية والفكرية والاتجاهات السليمة ذات الأبعاد المواطنة، أما التعثر في تحقيق الأهداف فيتطلب تقييم المكتسبات وجرد الإخفاقات. إذ الوقوف على الأعطاب يمكّن من استشراف الأفق بتعقل ورؤية تقويمية للمسار. فقد تكمُن الانزلاقات في أسس ومنطلقات التصور، أو في تحديد الغايات والأهداف، أو في تدقيق صيغ الربط بين الموضوعات والمفاهيم وسياقات ومجالات تأثيرها، أو في استيعاب مختلف المعطيات والفروقات القائمة والمحتملة. كما أنها قد تكون ذات صلة بقدرة القائمين على تنفيذ المشاريع وتطبيقها. لذلك فالنجاح غالبا ما يتطلب استثمار الفرص في غير تعلّق مَرَضِي بملاحقة ما ضاع منها. والفرص غالبا ما لا تُنَال إلا بعد تَجَرُّع الغُصَّة.

وهناك العديد من العوامل التي تنذر بتفاقم بؤر التوتر داخل المجتمعات في ارتباط بمعضلات الشغل والصحة والتعليم والعدالة، إذا ما تُرك الحبل على الغارب، واستمر الاستخفاف بقضايا الفئات الاجتماعية والمشكلات المجالية، وامتد زحف موجة الفردانية والمصلحية والانتهازية، ووقع التّمادي في الاستهانة بدور الفكر والثقافة في ترسيخ القيم والاتجاهات والسلوكات المدنية، وصار المآل إلى حيث تعطيل أدوار المؤسسات والإطارات والانشغال حصرا بتوازنات كبرى وأنصاف حلول وفاعلين غير موثوقين، وفقدان المصداقية والثقة. 

وكما يستشف من تجارب العديد من بلدان العالم الإسلامي؛ لا تحايل على الواقع. فقد يكون أدعى بالمحافظين أن يأتوا المعروف الذي نُصِحُوا به وينتهوا عن المنكر الذي نُهوا عنه، ويكون أجدى للحداثيين الاتّعاض بدروس التاريخ، فيبحثوا عن صيغ القيام بخطوة إلى الوراء وخطوتين إلى الأمام. إذ لا زال تمثُّل المجتمع في العديد من الحالات لا يتعدّى مفهوم القبيلة أو العشيرة في دلالاتها البدائية، لقيامه على أساس مجموعة "متناغمة" من الأخلاق تشكل ركيزة لما تراكم من تقاليد وأعراف يراعيها "ضمير" النّاس ويلتزم بها في إطار المتعارف عليه، في حين أن الأمر في مثل هذه المقامات يتعلق بدولة؛ بكل ما تعنيه من تعاقد اجتماعي مبني على تنازل الأفراد على جزء من دخلهم وحقوقهم وحرياتهم مقابل توفير شرط تفعيل سلطة عمومية لتدبير شأنهم العام بقوة القانون، على قاعدة المساواة بين الجميع والحزم في توفير ظروف الاستقرار والأمن والسلام.

لذلك، لا مفر من التخلص من عبء الماضي وأحماله، دون قطيعة معرفية كاملة مع الموروث، بلا تسرع في التطلع إلى المستقبل، وبعَيْن مُدقِّقة وعقل مُتفحِّص لتيسير أمر السعي للإجابة عن أسئلة الواقع وتحديات الحياة في الحاضر، ولاستعادة المبادرة والحركة التاريخية الفاعلة. فأي اشتغال فكري وسياسي في ارتباط بالواقع وأسئلته الحاسمة وتحديد مسار ارتقائه لابد له من استحضار شرط الراهنية المقرونة بالقيم المؤطرة لحركيته. وبدونه يستعصي فهم الموضوع وبنية الاشتغال عليه، وتجاوز الأعطاب السابقة، والعبور إلى المستقبل، بخارطة طريق واضحة متجهة إلى الأمام.