كان عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، قاسيا مع المثقفين، الذين يملؤون قنوات التلفزيون، بل إنه كان يقول “إنهم يلوثون الشاشة”، ويقصد بهم أولئك المثقفين الفرنسيين، الذين يتحدثون في كل الموضوعات، التي يستدعون للحديث فيها، حيث يعتبرون أنفسهم قادرين على تحليل كل شيء، وبسرعة فائقة.
يسمي بورديو هؤلاء بـ “fast thinkers”، أي المفكرين السريعين، والتي يمكن، تجاوزا، أن نترجمها بمفكري الوجبات السريعة أو الخفيفة، إذ من المؤكد أن عالم الاجتماع يحيل بهذه التسمية على الأكلات السريعة “fast food”، التي لوثت بدورها نظام التغذية في العالم.
كيف يمكن لشخص ما أن يفكر داخل السرعة، أو بهذه السرعة؟ إذ يعتبر بورديو أن هناك علاقة بين التفكير والزمن، إذ لا يمكن تحليل قضايا معقدة بالسرعة الفائقة التي تتم فيها من قبل هؤلاء “المفكرين” في شاشات التلفزيون، أولئك الذين “يطلقون الرصاص أسرع من ظلهم”.
وبصفة عامة، فإن هذا العالم الفرنسي قد خصص عددا من المقالات والمحاضرات، بالإضافة إلى كتيب صغير حول التلفزيون، كلها نقد قوي لأدوار وسائل الإعلام، التي يعتبر أنها في حاجة إلى مراجعة وإصلاح، لأنها، من وجهة نظره، تكرس التفكير السطحي، وتوجه الضيوف والجمهور، انطلاقا من أفكار مسبقة.
لذلك، فقد قبل في إحدى المرات أن يتحدث للتلفزيون، لكنه فرض عليه أن يأتي عنده إلى الجامعة، لا أن ينتقل إليه هو، بنفسه، وفي ذلك رسالة منه إلى أن الصحافة ووسائل الإعلام، عليها أن تتحرك نحو الجامعة والبحث العلمي، الذي يملك ذخائر قد تكون مفيدة للصحافة والإعلام، إذ أن الجامعة والمدارس العليا مشتل خصب للبحث والمنتوج الثقافي، على مختلف المستويات. ويمكن لأي صحافي أن يختبر هذا الأمر إذا توجه إلى هذه المؤسسات، يستقي منها المعلومات والمعطيات والأخبار القيمة.
إن هذا الانفتاح على البحث العلمي وما تنتجه مؤسسات التعليم العالي والمختبرات، كفيل بتقديم أجوبة كثيرة، عن أسئلة جدية تهم المجتمع، مقابل الثرثرة التي تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبح بعض الناس يحاولون تقمص دور المفكر أو المحلل، يتحدثون في كل شيء، بلغة أستاذية فوقية، يخبطون خبط عشواء، بأسلوب منمق، معتبرين أن هذا الأسلوب المتحذلق، قد ينوب عن الخواء.
هناك محللون ومفكرون وعلماء، يتحدثون أحيانا للقنوات أو لوسائل التواصل الاجتماعي، لكنهم في غالب الأحيان، يتحدثون في مجالات تخصصهم العلمي، أو يسردون سيرهم ومذكراتهم، المستندة على وقائع، وهناك كبار الصحافيين، الذين راكموا خبرة طويلة، لكنهم يتحدثون، وخلفهم فريق عمل، يهيئ المعطيات والمداخلات، لأن لديهم مكاتب عمل وهم مندمجون في مراكز أبحاث ودراسات.
أما ما أصبحنا نعيشه اليوم، في بعض التجارب، فهو الارتجال والتلفيق، بعينه، حيث ينصب الشخص نفسه محللا، رغم أنف الجميع، دون أن يكون له لا التخصص في مجال معين، يتحدث فيه ولا الخبرة الكافية، التي مهما بلغ شأنها، فإنها لن تكون كافية للحديث في كل شيء. إنها مصيبة تكنولوجيات التواصل الحديثة، التي يتقدمها الجهل، ويتوارى فيها العلم.