قضايا

التفاهة والخلاعة.. قاذورات السوشل ميديا تبيض ذهبا

محمد الشمسي - محامي (كاريكاتير عماد)
سيطرت على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة محتويات ناطقة بالصوت وأي صوت! وبالصورة وأي صورة! لمواطنين من الجنسين يشيعون بين الجمهور أشياء وأقاويل وصورا في قمة البذاءة والقبح والشناعة والحقارة والخلاعة، تعددت من الجهر بالشذوذ والتباهي به، إلى القول الإباحي الفاحش والتحريض عليه، إلى الكشف عن المفاتن وعرض مغريات الجسد للعلن، والقاسم المشترك لكل هؤلاء هو جني أكبر قدر ممكن من المتابعات والتعليقات والتشجيعات التي تذر عليهم في نهاية المطاف مالا لبدا، وتكسبهم نجومية مزيفة.

تتعالى أصوات الاستهجان والاستنكار ساخطة رافضة لهذا النمط المشبوه من تلك التسجيلات، لكن في نفس الوقت تظل تلك القذارة تحقق نسبة مشاهدات مرتفعة جدا.

ولعل موجة التفاهة والخلاعة هي أكبر من أن يفك رذيلتها مقاطعة الجمهور لها أو تنديده بها، فالسوشل ميديا هي إحدى الموجات العاتية لتسونامي الأنترنت، وهي ماضية في غزوها ليس فقط كل الدول بل كل العقول، فقد تحركت الشركات العملاقة لتدوس على القيم والمثل والاخلاق والأديان والعادات، فكان أن صار النجاح مرتبطا ليس بالمحتوى الهادف، لكن فقط بعدد المتلصصين وعدد لايكات وكومونتيرات الفضوليين، وأضحت الفيديوهات التافهة الخليعة تغذي جوع المتعطشين لمشاهدة ما يروقهم ويغذي فضولهم، ويناسب درجة وعيهم، ومنسوب فكرهم، ويحدد أولوياتهم.

وتتحد ثلاثة عوامل لتجعل من التفاهة والخلاعة مهيمنة مستحكمة في عالم السوشل ميديا كخم دجاج يبيض ذهبا، أولها ظهور شركات عملاقة زاوجت بين سلطة المال وامتلاك التكنولوجيا الحديثة، ولا تجد تلك الشركات حرجا في تحقيق الأرباح على حساب القيم الإنسانية، والغلو في نظام التسويق والاستهلاك في ليبيرالية متوحشة، وتحوز تلك الشركات رضى وقبول الحكومات والأنظمة السياسية الكبرى، بل إن تلك الشركات جاز وصفها بحكومات قائمة الذات، فهي تستغل السوشل ميديا لإعادة تشكيل العقل البشري وجعله عقلا نمطيا موحدا يقدس الاستهلاك، وثانيا استحداث تلك الشركات لوسائل تواصلها على الانترنت، كخنادق أو قلاع في استغلال فج للانترنت واحتكاره في أنظمتها المتطورة التي هيأت لها جحافل الأقمار الاصطناعية التي غزت كل شبر في الفضاء، مع تيسير ذلك الانترنت للجمهور حيث لا يتطلب الأمر غير تعبئة، أو (واي فاي) في محل أومؤسسة أووسيلة نقل، وتصبح التفاهة والخلاعة بكل لغاتها طوع البنان، وكل ذلك لتسهيل عملية الانقضاض على الفريسة، وثالثا: وجود بيئة حاضنة تعاني من أمراض مزمنة، تمتاز بظهور كائنات بشرية غير مألوفة، وتتألف بيئة التفاهة والخلاعة لزوما من "نجم وهمي" يملك استعدادا غير طبيعي ليقول أي كلام بأي وجه وفي أي مكان وزمان، ومن جمهور جائع متلهف لإرواء عطشه وفضوله يتعقب قنوات التفاهة ليصنع من روادها أبطالا من رمل... لتكتمل الصورة.

ولعل من يعتقد أنه يمكن صد التفاهة و الخلاعة بسلاح مقاطعتها يكون كمن يحاول إخماد النيران بكوب من ماء، لأن أسباب انتشارها أقوى من رغبات الحد منها، وإن الإنسانية في طريقها إلى أن تسدد فاتورة غالية التكلفة وقاسية العقوبة حين ستقف ذات زمن قادم على نتائج الاستثمار في الميوعة وإشاعة التفاهة وتشجيع الخلاعة واعتبارها أصلا تجاريا، ليبقى القانون وحده الذي يمكنه أن يخفف من سطوة وعربدة قبيلة التفاهة والخلاعة، رغم محدوديته، يليه وجوب إقرار مادة الأنترنت والسوشل ميديا في البرامج المدرسية لتلقين الناشئة مخاطر التفاهة والخلاعة وسبل تفاديها، هذا دون إغفال دور الصحافة التي عليها أن تقطع كل صلة لها بتلك المواقع والمقاطع والقنوات، وألا تزيد في شهرتها بإدراجها ضمن أخبارها، باعتبارها أعمالا مخلة بالذوق السليم، والأخلاق الحميدة، والأمن العام ومهددة للأجيال الصاعدة وللقيم والمثل الإنسانية العليا...