على الذين أداروا ظهرهم للتاريخ أن يواجهوا سيول نهر الحياة الكبير، فـ "لا توجد رياح مواتية لأولئك الذين لايعرفون إلى أين يذهبون"، كما همس سينيكا في أذن الوجود ذات صرخة. لقد حلت بالتاريخ الجديد دول تبحث عن موطئ قدم، وكأنها تختبئ خلف الأحداث المشوشة دون معرفة مصدر الرياح، ولا كيف توجه سفينتها إلى وجهة معلومة.
لسوء الحظ، أن بعض الدول المغاربية والإفريقية التي مد لها ملوك المغرب وشعبه، لطفا وكرما، يد العون ووصلوها بالمستقبل على المدى البعيد، نسيت أن الدول، في أبجديات العلوم السياسية، علاقات بعضها يُحتفظ به في مخزون الثقافة والذاكرة، وبعضها ترسمه خطط التعاون والاحترام والاعتراف بالسيادة في الحاضر والمستقبل، والإيمان بضرورة المساهمة في بناء فضاء للعيش المشترك في عالم يتحول على أرض النقد المزدوج؛ أرض القيم والتقنية.
الدول علاقات حوار وجوار، لكن بعض الدول مصابة بالنسيان وفقدان الذاكرة. يذكر التاريخ أن المغفورله محمد الخامس آزر الشعب الجزائري وامتدت بصيرته حتى إلى جنوب إفريقيا، تاركا الباب مفتوحا للشعوب كي تحيا عبر درس العودة الموسوم بالتحام الشعب بالعرش؛ ليسود السلام والسلم في عالم شيد أبناؤه تاريخهم المحلي والشخصي. وتواصلت مع المغفورله الحسن الثاني مسيرة البناء بين الأمم؛ بدءا بالمسيرة الخضراء مرورا بمشاريع اقتصادية ومبادرات سياسية احتضنها المغرب وباركتها دول عظمى، فكان المغرب فاعلا وشريكا في كل العلاقات والقمم الدولية.
منذ السبعينيات بدأت جماعات تحلم، وهنا أقصد ميلشيات البوليساريو، معتقدة أنها تملك أعظم حلم في التاريخ، لكن فقدت مع مرور الوقت رأسها وسط رياح مفتوحة على كل النهايات، لتجد نفسها أداة في يد الجزائر، تقدمها كورقة ضغط لافتعال صراع في الصحراء المغربية؛إذ سعت بمغالطات شتى أن تجعل من خلال ورقة الجبهة الوهمية حلا سحريا لمشاكل الجزائر الداخلية، وطريقا لتصريف أزمات داخلية، ولدر الرماد في عيون من يتساءل عن مآل بيترول البلاد وغازها ...إلخ.
لايمكن لحكم الجنرالات أن يستعين بمدنيين للتلويح بصراع في المنطقة، لذلك سلح مليشيات، ومدها بالسلاح، وسهل وصول دعم منظمات محظورة إليها، وتطور نشاط هذه العلاقات المحظورة إلى حد يستدعي تعاونا دوليا لمنع استفادتها من عائدات هذه الأنشطة، يتداخل فيها الاتجار بالبشر والاحتجاز، والتهريب وقطع الطريق بانتهاك سيادة المغرب، ... مكررة طرق نشاط جماعات يقوم اقتصادها على التهريب والاتجار الدولي في المخذرات الصلبة. فهل غاب عن المبعوث الأممي الوصول إلى مصادر تمويل هذا الصنف من الأنشطة؟
لتمويه الرأي الدولي على أن الأمر يتعلق بتجمع سكاني، احتجزت المليشيات المدنيين، وبعضهم فر في سياق رحلة «إن الوطن غفور رحيم»، عاد عدد منهم إلى وطنه، يحكي بمرارة حجيم العذاب ومذكرات الأقبية السوداء، حيث اعترف كل العائدين بأن الوطن في الذاكرة، وأن الهوية سجل محفوظ في أرشيف التاريخ، وأن أسراب العودة إلى الوطن حب شاهق في كل الأرجاء. للأسف «دي ميستورا» المبعوث الأممي لم يسعفه بصره في رؤية واقع بقية المحتجزين، وتقليب صفحات التاريخ، فكم من عين ترى وهي لا ترى شيئا.
"قلب رجل الدولة يجب أن يكون في رأسه"
لا يري خصوم الوحدة الترابية أن الأحداث غير المنطقية عقبة في خوض سجال حول كثير من المغالطات، إذ يشعر مواطنو العالم أن من يطالبون باقتسام أجزاء من الصحراء المغربية قد أفرطوا في الانتظار فلوحوا بآخر ورقة لتعطيل عجلة التاريخ؛ لأنهم لا يعرفون وجهة رحلتهم كما فعلوا مرات.
في سنة 2018 أكد جلالة الملك محمد السادس في خطابه، بمناسبة الذكري 43 للمسيرة الخضراء إلى الأقاليم الصحرواية الجنوبية المغربية، أن يد المغرب، ملكا وشعبا ، رسميا وشعبيا ممدودة إلى الجزائر الشقيقة، وجسر روابط الدعوة إلى حوار خلاق أوضحت معالمه خطابات العرش، وأكدته مبادرات مغربية بإحداث آليات للحوار والجلوس الأخوي للتشاور، أخذا برسائل معاهدة مراكش التأسيسية لاتحاد المغرب العربي، وتأكيدا من جلالته على المسؤولية المشتركة بين البلدين «أمام لله، أمام التاريخ، أمام مواطنينا».
لقد أكدت الأمة المغربية، رسميا وشعبيا، بروحها الإسلامية أن يدها ممدودة للحوار والتشاور، وهي «الأمة العريقة التي تعايشت فيها العديد من الشعوب حتى أوشكت أن تصير شعبا واحدا... لافرق بين عربي وأمازيغي أو صحراوي أو موريسكي أويهودي إلا بمقدار الولاء الخالد لشعار: لله/ الوطن/الملك» على حد تعبير الدكتور رشيد لبكر أستاذ القانون العام بجامعة شعيب الدكالي.
لم تلتقط الجهات في الشقيقة الجزائر الإشارة، فقفزت بالأزمة المفتعلة إلى الأمام، اختلط الحابل فيها بالنابل، وصار مَن مِن ِصلاحياته أن يقرر غير قادر على فهم ما يجري، يسمع دون أن يسمع شيئا، أضحت المجالس الاستشارية تقرر، فعمت الفوضى وقوبلت المبادرة الملكية الشعبية باتهام المغرب بمسؤوليته في حرائق تيزي وزو، وأحداث القبايل، تلاها قطع العلاقات وصولا إلى فرض التأشيرة على المغاربة لدخول الجزائر...ومحاولات كثيرة لحصار المغرب اقتصاديا بافتعال صراع وهمي، وتعطيل كل مبادرات السلام والتعايش بين البلدين والشعبين عبر الإيهام بأن فشل السياسية الداخلية رهين بالتفرغ لمجابهة تهديدات خارجية وهمية. نسيت السلطات الجزائرية أن الخلل يكمن في من يقرر داخل الجزائر، وأن البحث عن مبرر لتصدير الأزمة عبر جِسر الميليشيات والتطلع إلى الأطلسي هو مجرد خيال، إذن، ما جدوى الإصرار على نقل تلك العقدة المفتعلة إلى الأجيال، إعلاميا ونفسيا وتاريخيا، ...لاقناع الداخل الجزائري أن التهديد يمكن أن يأتي من المغرب؟، وأين يوجد قلب رجال القرار والدولة في الجزائر؟
مبادرة الأطلسي... السفن عرفت طريقها إلى الساحل:
الانتقال من التدبير إلى التغيير، إلى المبادرة والقرار هو شعار مغرب اليوم، الذي يقوم على الانفتاح وتجاوز الهويات المغلقة المتعطشة إلى الخيال والوهم، والعنف، وعقدة الضحية والمؤامرة. لقد استوعب المنتظم الدولي أن سلطات الجزائر أضحى من سماتها التطاول على خصوصيات الغير، ضاربة كل الأعراف الدولية والمحلية عرض الحائط، إذ تطاولت على تراث المغرب ونسبت الكثير من عناصره المادية واللامادية إلى نفسها، كما تطاولت على سيادة دول مجاورة، شرقا وغربا، ولاحقت أهل الحق من مواطنيها في دول مختلفة.
تنبه المغرب إلى ضرورة تغيير المعادلة بتحرير الكركرات، وخلق تكتلات إقليمية واقتصادية في افريقيا عبر خلق شبكة استثمارات في أكثر من ثلاثين دولة إفريقية، متخطيا التكتل المغاربي المجهض، فسمحت هذه المبادرة الملكية بجعل المغرب رائدا في الربط بين شمال افريقيا وجنوبها، إذ راهنت المبادرة التي أطلقها جلالة الملك على تعزيز ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، من خلال التعاون جنوب «جنوب الذي يرتكز على أساس شراكة رابح-رابح. لقد شكلت هذه المبادرة خارطة طريق استراتيجية حسب الخبراء، لأنها ستمكن دول الساحل» مالي، النيجر، بوركينفاسو، تشاد وموريتانيا... من تخطي التحديات السياسية والاقتصادية.
ولعل سعي هذه المبادرة الملكية إلى خلق دينامية جديدة وتكتلات إقليمية إفريقية قد أخذ بأولوية الاقتصاد على السياسة، وجعل إفريقيا متطلعة إلى علاقات أرحب مع دول عظمى في القارة الأوروبية والأمريكية وآسيا، مثل إسبانيا وأمريكا والصين وفرنسا.
زيارة ماكرون للمغرب: مسار آمن للعلاقات المغربية الفرنسية
لقد كان الرئيس الفرنسي واضحا في زيارته الاستثنائية إلى المغرب، فتحتَ قبة البرلمان ربط حاضر المغرب وفرنسا بأشكال الدعم المتبادل والروابط المتينة ببن البلدين منذ القديم، حيث قال: «ممتنون لكل المغاربة الذين قدموا دماءهم من أجل تحرير فرنسا من الاستعمار»، وأضاف: «حاضر ومستقبل الصحراء تحت السيادة المغربية». لم يكن الموقف موقف رئيس فرنسا فحسب، بل كان اعترافا بلسانه من كل الفرنسيين، حكومة وشعبا، بعمق الأفق الذي يشُدُ البلدين ويجذر سيادة المغرب على أراضيه على أساس «المبادئ التالية» العلاقة بين ودولة، والمساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وفي اختيار السياسة الخارجية، واحترام الالتزامات المبرمة..." كما جاء على لسان الدكتور محمد بنطلحة الدكالي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض.
أتت هذه الزيارة تتويجا للمسار المتنامي لأشكال التعاول بين المغرب وفرنسا، ولعل الاستقبال الملكي والشعبي الاستثنائي الذي حظي به الرئيس الفرنسي وزوجته يحمل رمزية كبيرة، ودلالات بناء مستقبل محفوف بالأخوة والتعاون والتعايش.
جسد هذا الاستقبال التاريخي خصوصية التقاليد المغربية، وكرم ضيافة جلالة الملك للرئيس الفرنسي والوفد المرافق له بحضور الأسرة الملكية، وحضور شعبي عاش فرحا كاملا بملكه وضيفه، مرددا نشيد البلدين كما قدمتهما تشكيلة من الحرس الملكي.
كانت الزيارة مجللة بتوقيع اتفاقيات شراكة في مجالات كثيرة، قطعت الشك باليقين أمام كل تأويلات المغرضين حول عمق العلاقات المغربية الفرنسية، الرباط وباريس.
تم توقيع 22 اتفاقية، سبقتها 21 طلقة للمدفعية احتفاء بزيارة خاصة واستقبال مغربي ذي سيادة ، وطلقة واحدة كانت بإعلان باريس عن فتح قنصليتها في الأقاليم الصحرواية المغربية، تنضاف هذه الاتفاقيات المتبادلة في مساق تطوير التعاون بين المغرب وفرنسا إلى استراتيجية رابح – رابح التي سلكها المغرب في مبادرة الأطلسي لتجسير الروابط بين شمال –جنوب والاتحاد الأوروبي. كانت مبادرة جلالة الملك واضحة وحازمة في الدفاع عن قضايا الوحدة الترابية من خلال خطابه إلى عموم الشعب والفاعلين والأحزاب والشركاء والدول الصديقة لتدشين مسار جديد للعلاقات المغربية مع باقي الدول، وتأكيد حضوره الفعال في نشر السلم، واستحضار القضية الفلسطينية، ووقف إطلاق النار بالشرق الأوسط في غزة ولبنان، وفق ما تمت مناقشته بين جلالة الملك وماكرون. وهو نفس الفعل الذي سلكته الديبلوماسية والديبلوماسية الموازية بحسها الاستباقي والحرص على السيادة الوطنية، وصيانة الثوابت واستحضار التوازنات والأسيقة الدولية.
فهل سينجح الخصوم في إثارة مزيد من التوترات وتعميق الإحساس بوهم وجود صراع خارجي لدى مواطنيهم؟، هل سيسير العالم نحو تجاهل مناورات الجارة واكتشاف من يقرر بقصر المرادية؟
قد تكتفي سلطات الجارة المثيرة للفوضى باجترار مقولات كلاسيكية، والعبث بالممنوعات في دول الجوار دون معرفة أن السفينة أبحرت في اتجاه رياح أفق مختلف يقوده جيل جديد وفكر خلاق يؤمن بالانتقال من التدبير إلى التغيير.