قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق: 8 - اختلال في التوازن (ب)

سامر أبو القاسم

إذا كان من نقاش رصين حول وضعية المرأة ومساواتها للرجل في البلدان الإسلامية، فهو في اعتقادنا لابد أن يكون ـ من حيث المبدأ ـ مرتبطا أشد الارتباط بمحددين أساسيين هامين: يتمثل الأول في علاقة المساواة بحق كل المواطنات والمواطنين في التمتع بالحقوق والحريات كقاعدة ارتكاز أساسية لأي تحول تعرفه هذه البلدان، وهي اليوم على درب قطع بعض الأشواط من حيث العمل على تجسيد معالمه على أرض الواقع بشكل متفاوت فيما بينها، بالرغم مما يعترضها من عقبات وحواجز، وبالرغم من أن حجم الإمكانيات قد لا يكون موازيا أو في نفس مستوى سقف التحديات المطروحة والإكراهات القائمة في الواقع، وبالرغم من وجود مشاكل عدة على مستوى الحكامة في تدبير الممكن والمتاح من هذه الإمكانيات، وبالرغم من وجود مقاومة ذات طابع محافظ داخل فئات وشرائح مجتمعية، وبالرغم كذلك من وجود بواعث قلق بارزة بخصوص احتمال الانتكاس والتراجع إلى الوارء والتفريط فيما تم ترصيده من مكتسبات ف هذا الشأن.

ويتجسد المحدد الأساسي الثاني في علاقة قيمة المساواة بالوظائف المؤسساتية المعنية بإنفاذ مضامين ومحتويات مشاريع التسيير والتدبير للسياسات العمومية وفق القواعد والمساطر المعمول بها في إطار الارتقاء بالأدوار والمهام المنوطة بالدولة، والملزمة بها تجاه مجتمعها. فأن تكون المجتمعات الإسلامية في خدمة ترسيخ وتعزيز مفهوم حق المرأة في العيش على أساس مساواتها للرجل، سواء في سياق الديناميات السياسية والحقوقية، أو في سياقات الاهتمام الكوني بهذا الحق وقواعد التفكير في بلورته وتحسين شروط تفعيله على أرض الواقع، أو في سياق تحديد نقط ارتكاز عملية تجسيد معانيه في كل تفاصيل العلاقات والتفاعلات الجارية داخل المجتمع، فهذا يعني أنها ملزمة بتبني مفهوم المواطنة بما تعنيه من كونها معبرة عن مجمل العلاقات والتعاقدات التي تربط الفرد/المواطن والمواطنة بمؤسسات الدولة على قاعدة ضمان الحقوق والحريات. وهذا يعني ما يعنيه على مستوى ما يتطلبه الأمر من جهد وعمل في إطار المساهمة من أجل تنامي الاهتمام بالبعد الإنساني وبشروط تواجده السياسي داخل المجتمع. كما أن له من الدلالات ما يلزم الشعوب باقتفاء آثار الاهتمام بمفهوم التاريخ ومسارات تطوره في مجال تمكين الكائن البشري من حقوقه وحرياته بشكل عام، وكذا في مجال تجسير الهوة الساحقة بين الرجل والمرأة على مستوى التمتع بهذه الحقوق والحريات بشكل خاص، وهو ما يفرض بالضرورة وجود إرادة فعلية في صياغة قواعد قانونية ناظمة لعلاقات الأفراد والجماعات والمؤسسات.

وبهذه الرؤية والخطوات والإجراءات تصبو الشعوب إلى أن تكون أقرب إلى الاهتمام الإنساني والاجتماعي والسياسي بمآسي الإنسان عبر مختلف المحطات التاريخية التي زجت به في أنفاق ارتكاب أبشع الفظاعات في حقه، امرأة كانت أو رجلا، سواء بمبرارت تاريخية أو حضارية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية أو جنسية... 

لذلك، ومن أجل مساواة فعلية للمرأة مع الرجل، فالأولوية اليوم لترسيخ البعد التعددي الاختلافي على قاعدة مفهوم المواطنة، والتوجه مباشرة إلى تفكيك ونقد الأسس التراثية التي شكلت دعائم الفكر المعادي للبعد الإنساني في تنظيم العلاقات داخل المجتمع الواحد، وبناء العلاقات من جديد على أساس أن للبشر راهنا ومستقبلا مشتركين. والتواصل هو أداة لتبديد الحواجز التي تنتصب عائقا أمام الأفراد والجماعات وأساس للوحدة التي تربط بينهم وتضمن انتماءهم للمجتمع الواحد وللإنسانية جمعاء.

ومن المنطقي الانطلاق من تصور مكانة الإنسان في التاريخ بعيدا عن تعميم أفكار دينية أو جنسية أو عرقية أو لغوية على التاريخ بماضيه وحاضره ومستقبله. والمطلوب هو انخراط الفاعلات والفاعلين السياسيين والاجتماعيين والثقافيين في دينامية التحولات الجارية بدون افتعال للتعقيدات. فإذا كانت المعرفة الإنسانية قد سلطت الضوء عبر مراحل تطورها التاريخي ـ بناء على ما تراكم في خزان حضارات مختلف الشعوب والأمم ـ على معنى المواطنة بما هي تعبير عن مجمل العلاقات والتعاقدات التي تربط الفرد/المواطن والمواطنة بمؤسسات الدولة حقوقا والتزامات باعتباره شخصية قانونية تساهم في تدبير الشأن العام، فإننا مطالبون بالبحث عن سبل تجسيد هذا المعنى على أرض واقع مجتمعاتنا.

وفي اعتقادنا، فإن أهم نقط الارتكاز التي ينبغي الانكباب عليها، وترسيخها وتقوية شروط وظروف تواجدها الاجتماعية والثقافية، تتمثل في أهمية إدراك الإنسان نفسه كمواطن قبل كل شيء، وضرورة وضع الإنسان شرطه السياسي نصب عينيه، وتحفيز الإنسان على مشاركة أمثاله من المواطنات والمواطنين بدل التعالي عليهم، وتأهل الإنسان ذاتيا للتفكير والمشاركة في صناعة حاضر ومستقبل بلدانه ولاكتسابه صفة المواطن أو المواطنة داخلها. فأن تكون المجتمعات في خدمة ترسيخ وتقوية وتعزيز مفهوم المواطنة، معناه أنها ملزمة بالعمل على توفير شروط دمج نقاط الارتكاز هذه في كل العلاقات القائمة بين مكوناتها، وفي كل التفاعلات الجارية بين مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية، بتنشئة اجتماعية قائمة على المواطنة، حيث لا فرق بين رجل وامرأة، وحيث لا مجال للتمييز ضد المرأة بناء على ما تراكم في الموروث من تقاليد وعادات ما عادت مجدية.

فمطلب المساواة بين المرأة والرجل ليس ترفا فكريا ولا مجالا للمزايدة السياسية، ولا قضية للتصريف المغالي والمتعصب لمواقف دينية أو عرقية أو حتى قانونية، بل هو مطلب حاضن لرؤية تصحيحية للمسار التاريخي للعلاقات داخل المجتمعات، ومعبر عن فلسفة جديدة للعيش المشترك في الحاضر وعن استشراف أفق المستقبل، ومجسد لاستراتيجية عامة معنية بإحداث تغيير إيجابي في مجمل العلاقات والتعاقدات من أجل المساهمة الجماعية والمشتركة في تدبير الشأن العام.

فهل تعمل الدول الإسلامية على الترسيخ المؤسساتي لثقافة المواطنة، لكي تفسح المجال لوضوح مطلب المساواة؟ وهل تمكنت الإطارات والمؤسسات من العمل على تجسيد معاني المواطنة في كل مفاصل هياكلها الإدارية والتدبيرية لكي تصبح المساواة ضرورة واقعية ومجتمعية وحيوية؟ وما هي التراكمات المحصل عليها اليوم في مجال ترسيخ ثقافة المواطنة داخل كل من الدول والمجتمعات، لكي يتم رفع الحيف على المرأة والقضاء على كل أشكال التمييز ضدها؟ وكيف هو حال التنشئة الاجتماعية والتربية الوطنية والبحث العلمي؟ وكيف هو الحال على مستوى الحياة الاجتماعية والأسرية؟ وكيف هو الحال على مستوى العلاقات والتفاعلات بين كل الأفراد والجماعات والمؤسسات؟

إذ كلما كانت المؤسسات والإطارات مراعية لحضور فكرة المواطنة عبر وعي الذات لدى الإنسان من خلال المجموعة، وعبر تحديد علاقة الفرد بمجتمعه، وعبر تحديد علاقة الفرد بالدولة، وما ينتج عن ذلك كله من علاقات وارتباطات، كلما كان المجتمع مُدْمجا لمقاربة المواطنة وفاسحا المجال لمطلب المساواة بين المرأة والرجل كي يتجذر أكثر في الذهنيات والعقليات، وكلما كان غير مراع لتلك المحددات، كلما كانت النتائج عكسية.

فغياب تصور ناظم لمقاربة المواطنة، وافتقاد الخيط الناظم بين هذه المقاربة ومطلب المساواة بين المرأة والرجل على مستوى الجانب المعرفي، وعدم وضوح الرؤية الموجهة للتصريف التربوي والثقافي والاجتماعي والسياسي الدقيق لمقاربة المواطنة، يطرح السؤال عريضا حول مدى التحقق من الوصول إلى عملية التصحيح لما تم تمثله بخصوص ثقافة المواطنة بواسطة إجراءات تمكن من التحكم في عمليتي التنشئة والتربية بفضل التدخلات التي تصحح ذلك المسار، سواء تعلق الأمر بمحتوى التنشئة والتربية أو بطرائقهما أو بمردوديتهما وانعكاسهما على المواطنات والمواطنين.

إن إحدى المشكلات المطروحة في مجالي التنشئة الاجتماعية والتربية المستدامة تكمن في إعادة تصحيح العلاقات بين الفرد والدولة، وتنمية الإحساس بالدولة وتعميقه لدى الفرد كمؤسسة تحكم وتنظم الجميع ويشارك فيها الجميع ولها هدف هو مصلحة الجميع والخير العام. وفكرة الديمقراطية نفسها تصبح غير ذات معنى مع غياب الوعي بالدولة وعدم وجود أساس فلسفي لفكرة الدولة نابع من الثقافة المحلية نفسها ومن خلاصات التجارب الناجحة في بلدان العالم.

فزيادة منسوب معنى المشاركة الاجتماعية في التنشئة والتربية، هو المعنى الذي ينبغي أن يكون حاضرا بقوة، وهو الذي يكون مؤداه تربية الفرد على المشاركة، وتقريب الفرد من المؤسسات الاجتماعية الفاعلة، حيث لا فرق في هذا بين امرأة ورجل. والمساواة بهذه المعاني كلها كالمواطنة ينبغي أن تحضر من خلال التركيز على علاقة الأفراد ـ نساء ورجالا ـ والجماعات والمؤسسات بالقانون، والنزاهة والشفافية والوضوح في كل الخطوات والعمليات والتدابير والإجراءات التصحيحية والإصلاحية، والتركيز على حقوق ومسؤوليات المواطنات والمواطنين والحكومة والبرلمان والقضاء والمؤسسات الوطنية والجماعات المحلية والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام في مجتمع ديمقراطي، والمشاركة السياسية عبر الحق في الخدمة والمشاركة في إدارة البلاد والحق في الترشيح والتصويت وحرية الإعلام والتعبير والمسؤوليات تجاه المجتمع وتطوير فهم الروابط التي تجمع بين الحقوق والمسؤوليات، وتطوير الحس تجاه العلاقات المعقدة بين مختلف قطاعات المجتمع الديمقراطي.

هناك ضرورة ملحة لأن تتقاسم النساء والرجال سلطة اتخاذ القراارت الخاصة بالشؤون العامة، لأنه ببساطة كلاهما يشكل المجتمع سويا، وهم وهن ـ في نهاية المطاف ـ المعنيون والمعنيات بالقرارات السياسية.

فما يمكن اعتباره أساسا للمطالبة بمساواة المرأة والرجل يكمن في رؤيتنا التي تنطلق من الرغبة في إقامة نظام أكثر إنصافا وعدالة، ويكمن في الإرادة القوية والجامحة في أن يكون هذا النظام متمتعا بتماسك اجتماعي قوي؛ تعزز وشائجه كل العلاقات والتفاعلات الجارية بيننا كأفراد وجماعات ومؤسسات، ويكمن أيضا فيما يمكن أن نتحلى به من شجاعة سياسية قادرة على إحداث تقدم مستدام قابل للقياس نحو مساواة بين المرأة والرجل في كل مواقع القرار. فالارتقاء بمنظورنا للمساواة يبدأ من حيث قدرتنا على استبدال النماذج السياسية القائمة على أساس التمييز والعمل على فتح فضاءات أرحب من حيث إنصاف النساء في مجالات اتخاذ القرارات الجماعية، محلية كانت أو جهوية أو وطنية. ولعل هذا المنظور هو الكفيل ـ ليس لوحده طبعا ـ بإضفاء طابع الشرعية أكثر على تمثيلية النخبة السياسية في بلادنا، والابتعاد عن التحليق في فضاءات الاستفادة من الامتياز أو الريع السياسي.