مجتمع وحوداث

فاس فالراس

ميمونة الحاج داهي (تدوينة)

انهارت بنايتان في فاس، الخبر هذه المرة أسود، أكثر من 22 وفاة، وعدد من الجرحى، و مئات القلوب تنوء بالفجيعة.. 

الأرقام موجعة، لكنها أقل وقعا من حقيقة أن ما انهار لم يكن إسمنتا فقط، بل أمانا وثقة في أن السقف فوق رؤوسنا لن يخوننا..لكن للأسف الفاس طاح على الراس..

منطق السرعة أقوى من منطق السلامة. الحاجة الملحة للسكن، الضغوط الاجتماعية، والرغبة السياسية في التهدئة، تجعل البناء يتحرك بوتيرة سريعة، والورشات تعمل دون توقف، والأحياء تمتد في كل اتجاه. لكن أدوات المراقبة لا تتوسع بنفس الإيقاع. النظام الإداري مزدحم، عدد المفتشين أقل من عدد الورش، والمهندسون يعملون تحت ضغط الزمن، والمقاول يعرف أن وقت الإنجاز هو رأس المال. عند لحظة معينة، تولد البنايات قبل أن تكتمل شروط المتانة. الورق يقول إنها سليمة، لكن الإسمنت لا يفهم لغة الورق.

في المغرب، لدينا رخص وتصاميم وتوقيعات ومكاتب دراسات. لكن جودة البناء لا تُقاس بما هو مؤرشف في الملفات، بل بما يقف على الأرض. الأسئلة التي تغير مصير بناية لا نجدها في التقارير الرسمية هل المواد مطابقة؟ هل تم احتساب قدرة التحمل الصحيحة؟ هل تم احترام التصميم الأصلي؟ هل أضيفت غرف فوق السطح دون علم المهندس؟ هل تغير وزن البناية بعد السكن؟ هذه التفاصيل موجودة في كل حي جديد، لكنها تبقى خارج النقاش العام لأننا نكتفي بأن البناية “سلمت للساكنين” ولا نسأل إن كانت “ستصمد سنوات”.

البناء ليس هندسة فقط، هو ثقافة أيضا..في ذهنيتنا، هناك اعتقاد خطير ما وقع لفلان لن يقع عندي. هذا الاعتقاد يدفع الأسر إلى إضافة غرف فوق السطح، أو تركيب خزانات مياه ضخمة، أو بناء طابق إضافي لأن “الأسمنت جيد”. لكن الهندسة لا تتعامل مع القناعات، بل مع الأرقام. كل كيلوغرام في الأعلى له أثر في الأسفل. كل عمود له قدرة تحمل محددة. كل تعديل غير مدروس هو خطر مؤجل. من حق الناس البناء، لكن من واجبهم السؤال، لأن الخطأ في البيت لا يعني تغيير لون الحائط، بل قد يعني سقوطه يوما.

السلطات ليست غائبة، لكنها أحيانا أسيرة المنطق الاجتماعي. من يمنح الرخص بسرعة يفعل ذلك لأنه يعرف أن كل شقة تُسلّم تمتص غضبا، وتخلق استقرارا، وتقدم حلا سريعا لأزمة حقيقية. التساهل ليس دائما فسادا، بل محاولة لعدم تعقيد الأمور مع السكان. لكن “دع الناس يبنون ونسوّي لاحقا” هو وصفة لهشاشة مستقبلية، لأن لاحقا في العمران غالبا لا يأتي. الإهمال الصغير اليوم هو الخطر الكبير غدا.

الاقتصاد بدوره ينتج المخاطرة. المنعش العقاري، المقاول، المورد، الساكن الجديد، كلهم يستفيدون من البناء السريع. الربح يتحقق فورا، والشقق تُباع، والناس يسكنون. لكن الاستفادة لمرة واحدة لا تعني الجودة المستدامة. هناك ضغط اقتصادي واضح أسعار، منافسة، تكلفة مواد، هامش ربح. في البداية، يربح الجميع، ويبقى الخطر معلّقا. إلى أن يأتي يوم يسقط فيه كل شيء دفعة واحدة، بلا مقدمة.

بعد كل كارثة، نبحث عن شخص واحد نضع عليه اللوم. هذا يُريحنا، لكنه لا يشرح شيئا. الانهيار في فاس لم يصنعه فرد واحد، بل سلسلة كاملة تساهل إداري، ضغط اجتماعي، ثقافة بناء سطحية، رقابة غير كافية، اقتصاد سريع، ورشات بلا وقت، وطبقة إسمنتية رقيقة تخفي هشاشة كاملة. هذا ليس اتهاما، بل توصيفا..هذه الأخطاء المتراكمة في السلسلة، البحث فيها عن رأس واحد لا يحل شيئا.

الجرأة هنا ليست في الصراخ، ولا في التلاوم، بل في الاعتراف لدينا نموذج عمراني هش، يحتاج إصلاحا عميقا، بدل الترقيع. المطلوب سياسة وقاية واضحة تفتيش دوري إلزامي للبنايات المسكونة، دراسات مستقلة قبل التسليم وبعده، منع أي إضافة دون ترخيص هندسي، فرق رقابة ميدانية حقيقية، وثقافة سلامة تُدرَّس للناس قبل شراء البيت. المدينة ليست جدرانا، المدينة منظومة أمان، والبيت ليس سقفا فقط، هو عهد بين الإنسان والمكان.

في فاس، لم يسقط إسمنت فقط. سقطت ثقة. الثقة في أن البيت مكان آمن، وأن الرقابة تحمي، وأن الأمور تسير كما يجب. ما يجب أن يتغير اليوم ليس الشعور، بل النظام. إذا كانت المدن ستستمر في التوسع بنفس المنطق، فالسؤال ليس: هل ستتكرر الكارثة..السؤال الحقيقي هو: في أي حي، ومتى؟ لأن العمران الذي يُبنى على التساهل قد يمنح بيتا في يوم ما، لكنه دائما يسقط يوما ما على رؤوس ساكنيه..

 رحمة الله على من رحلوا، وشفاء لمن بقي. أما من بقي فوق الأرض، فعليه أن يفهم أن الوقاية ليست ترفا هندسيا، بل مسألة حياة كاملة..