مجتمع وحوداث

فاس المجيدة تحت الأنقاض… وقلوبنا معها

محمد الطالبي

لا شيء أشد قسوة من أن تستيقظ فاس المجيدة على صرخات تُسمع ولا تُرى، وعلى غبار يتصاعد من قلب البيوت التي كانت قبل ساعات عامرة بالحياة. فاس اليوم ليست فاس التي نعرف. إنها مدينة تحمل جرحًا جديدًا، عمارتين تهويان دفعة واحدة، وتاريخًا يكتب من جديد بلون رماد وأسماء أطفال فقدوا قبل أن يعرفوا من العالم سوى ملامحه الأولى.

أربعة أطفال صعدوا إلى ربهم… أربعة ملائكة كان يُفترض أن يكبروا في الأزقة نفسها التي صارت الآن ركامًا، وأن يحملوا حقائبهم إلى مدارسهم بدل أن تحملهم سيارات الإسعاف إلى مثواهم الأخير. كيف يمكن لأي قلب أن يحتمل هذا المشهد؟ وكيف لمدينة عريقة مثل فاس المجيدة أن تبتلع دموعها في كل مرة وتواصل الوقوف وحدها أمام عبث لا ينتهي؟

ولم تتوقّف الحكاية عند هذا الحد. هناك نساء حوامل جرفتهن القسوة دون رحمة، وضحايا آخرون لم يُكتب لأسمائهم أن تُعلن بعد، فيما الحصيلة مرشّحة بقوة للارتفاع. لن أطالب الحكومة بالتدخل؛ فقد تدخلت حتى سئمت منا: تدخلت في صحتنا، وفي عمراننا، وفي مداخيلنا الهزيلة، لكنها لم تنجح في التدخل الوحيد الذي نحتاجه: أن تتركنا نواجه الحقيقة بلا وسائط، بلا تبريرات، بلا تجميل. تركتنا نواجهها عُراة، حفاة، منفردين كالدئاب، نحاول أن نفهم كيف يصبح البيت قبرًا، وكيف يصبح الشارع فجأة مقبرة مفتوحة. ومع ذلك، سننهض. أحياءً وأمواتًا. سوف ننهض جميعًا لمدواة الجرح، لأن المدن لا تبقى طويلاً تحت الأنقاض مهما اشتد عليها الخراب.

وهذه الفاجعة لم تكن مجرد مشهد عابر، فقد أعلنت السلطات المحلية في حصيلة أولية أن 19 شخصًا لقوا مصرعهم، و16 آخرين أصيبوا بجروح متفاوتة الخطورة، إثر انهيار بنايتين من أربعة طوابق كانتا تؤويان 8 أسر في حي المستقبل بالمسيرة. وانتقلت السلطات والأمن والوقاية المدنية إلى عين المكان، وأُجلِي السكان المجاورون احترازًا، لكن حين يصل التدخل بعد سقوط الأرواح، يصبح كل جهدٍ مجرد محاولة لتقليل حجم الخراب لا أكثر.

نحن لا نرثي الضحايا فقط، بل نرثي ثقة انهارت، وقيمة الإنسان التي هُدرت، وقوانين كان يجب أن تحمي ولم تفعل.

نرثي عقودًا من التهاون التقني، والتساهل الإداري، والصفقات التي تُبرم تحت الطاولة، قبل أن تُبرم فوق الأرض التي ستنهار على رؤوس الأبرياء. نرثي منظومة اعتادت أن تنتظر الكارثة لتسأل: من المسؤول؟ فيما يعرف الجميع أن المسؤولية موزعة بين الإهمال والتواطؤ والصمت الطويل.

في مثل هذه اللحظات، لا تكفي العبارات ولا تكفي الدموع.

نحتاج إلى دولة تعيد ترتيب أولويّاتها، وإلى عدالة تفهم أن بعض الجرائم لا تُقاس بالأوراق بل بالأرواح، وإلى ضمير مهني لا يوقظه سوى فاجعة.

سلامٌ على أرواح الأطفال الأربعة.

سلامٌ على كل جسد انتُشل من تحت الأنقاض، وعلى كل قلب ينتظر خبرًا عن غائب.

وسلامٌ على مدينة تحاول أن تنهض من بين الركام، فيما كل ما حولها يصرّ على أن يُعيدها إليه.

هذه ليست مجرد مأساة… إنها نداء آخر للضمير.

فهل من يسمع؟.