والواقع أنه ليلة صدور القرار أشار الملك في خطابه الاستثنائي إلى أن المملكة ستقدم للأمم المتحدة مقترحها التفصيلي، وخلال هذا الأسبوع جَمع ثلاثة مستشارين للملك هم فؤاد عالي الهمة والطيب الفاسي الفهري وعمر عزيمان زعماء الأحزاب السياسية ليطلبوا منهم تصورهم لمقترح الحكم الذاتي التفصيلي، مما يدل على أن 31 أكتوبر الذي أصبح عيدا للوحدة، لم يكن محطة وصول ولكن بداية مسلسل جدي يراد له أن يكون ثمرة توافق وطني أولى حلقاته هي «المقترح التفصيلي».
وفي هذا الإطار، تطرح العديد من الأسئلة الحساسة في هذا الموضوع، ومنها ماذا تعني الأمم المتحدة بالحكم الذاتي «الحقيقي»؟ وهل هناك بالفعل معايير دولية لهذا الحكم الذاتي؟ وهل من الواجب أن ينسجم المقترح المغربي التفصيلي مع التجارب القائمة في 17 حالة عبر العالم لهذا النوع من الحكم؟ ومن سيقرر ما إذا كان المقترح يتوفر على شروط «الحقيقي» أم لا؟ وما هي حدود التنازلات الإضافية التي على المغرب أن يقدمها لربح السيادة؟ هل سيسمح الدستور المغربي بتأسيس أحزاب على أساس جهوي؟ وهل سيكون رئيس الحكومة في الإقليم هو ممثل الدولة أم سيكون للدولة ممثل لدى جهة الحكم الذاتي؟ وعلى عاتق من ستقع مسؤولية إحصاء سكان المخيمات؟ وكيف سيتم تدبير إيواء وتشغيل عشرات الآلاف من العائدين؟ وكيف سيتم إدماج الأطر العائدة من رئيس «الدولة الصحراوية» إلى القادة العسكريين والوزراء والسفراء وغيرهم من النخب؟ كيف سيتم تدبير ثروات الصحراء ومنها فوسبوكراع والصيد البحري؟ وما هي التدابير الكفيلة بخلق علاقات إنسانية انسيابية بين الانفصاليين السابقين والوحدويين؟ وهل ستكون للمجلس الاستشاري للشؤون الصحراوية حياة جديدة في هذا الخضم؟
قد لا تنتهي الأسئلة لأن القضية مصيرية والرهان كبير. إلا أن الأهم اليوم هو البداية وما أصعبها. فالمغرب الآن كمن يخوض منافسات بطولة الوحدة الترابية، حسم التأهل في مجلس الأمن، ويخوض مباراة التوافق الوطني حول مقترح الحكم الذاتي، ثم مباراة إقناع الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط منصوص عليه في القرار 2797، ثم إقناع الأمم المتحدة قبل أن تنطلق مباراة النهاية في مواجهة البوليساريو وخلفها الجزائر.
وبعد اختتام هذه المراحل كلها، نكون إزاء بداية جديدة لا تخلو من صعوبات وتعقيدات، وهي تنزيل الحكم الذاتي في الميدان، وآنئذ يمكن أن نقول إن ملف الوحدة الترابية قد أغلق بلا رجعة.
ولحد الآن هناك بعض مؤشرات الارتياح في مآل هذا المسلسل الواعد كما أن هناك مؤشرات محبطة. فأما الثانية فتتمثل في رفض جبهة البوليساريو لقرار مجلس الأمن وإعلانها عدم الانخراط في مخرجاته. وحتى هذا الموقف المنتظر لا يمكن أن يثني المغرب عن السير قدماً في مراحل تطوير مقترحه للحكم الذاتي والانخراط في الدينامية الأممية الجديدة بكل قوة. قد يطول أمد النزاع إذا تعنت الطرف الآخر، لكن، ومنذ 31 أكتوبر، لن يكون وضع المملكة إزاء الأمم المتحدة كما كان من قبل، لقد أصبح هناك طرف رافض للشرعية الدولية هو الجبهة وعلى عاتقها اليوم يقع وزر إطالة النزاع وعرقلة الحل.
لا أعتقد أن مجلس الأمن سيقدم يوما على تحويل القضية من المادة السادسة التي تنص على حل النزاعات بشكل سلمي وبتوافق الأطراف إلى المادة السابعة التي تخول فرض الحل بالقوة على الرافض لقرارات المجلس، ولكن وضع المغرب سيكون أريح من كل ما سبق. وأما عن المؤشر الأول الذي يبعث على التفاؤل فهو الموقف في الجارة الجزائر. والذي تتبع الحوارين اللذين أدلى بهما وزير الخارجية أحمد عطاف للقنوات الجزائرية باللغة العربية والفرنسية، يستشف أولا أنها المرّة الأولى تقريبا التي يعبر فيها مسؤول جزائري رفيع المستوى عن الاختلاف دون تهجم على المملكة ودون لغة حربية أوصدامية. ثانيا عطاف ظل يردد محاسن القرار الأممي 2797 من وجهة نظر بلاده، فكان السؤال الحيوي الذي يجب أن يطرح عليه هو لماذا لم تشارك الجزائر في التصويت إذا كان هذا القرار قد راقها ولا يتضمن ما تدعيه الرباط؟
وفعلا طرح صحافي القناة الفرنسية على عطاف هذا السؤال، فكان جواب الوزير أنه سيعطي القناة سبقا صحافيا! «لقد كانت الجزائر قاب قوسين أو أدنى من التصويت على القرار، لولا رفض سحب كلمتين من إحدى الفقرات في الديباجة وهي (تحت السيادة المغربية)».
كل هذا يعني، بقراءة متفائلة، أن الجزائر ولأول مرّة تتعامل بروح مختلفة مع مستجد شكل منعطفا تاريخيا في مسار النزاع. وللمزيد من التوضيح يقدم لنا عطاف مفاتيح أخرى لحسن قراءة ما وراء الكلمات، بحيث تحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط بتقدير كبير، وقال إنها يجب أن تضع مسافة بين موقفها كدولة، أي اعترافها بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وبين وضعها كوسيط، دون أن يطعن في كون هذه الوساطة لن تقوم إلا على أساس قرار مجلس الأمن الذي كتبته الولايات المتحدة نفسها، والذي يتخذ من مقترح الحكم الذاتي منطلقا للمفاوضات.
عطاف أيضا، ولأول مرّة في الجزائر يكسر الطابو ويناقش على الهواء مباشرة مقترح الحكم الذاتي المغربي لسنة 2007. ليس المهم ما قاله عنه، الأهم هو أنه أخرجه أمام الكاميرات وعلق عليه، وهذا تطبيع مقصود في نظري مع موضوع سيكون في المستقبل محور أي مناقشة حول الصحراء. وحتى في منطوقه، تحدث عطاف عن أن المقترح المغربي لا يتجاوز أربع صفحات، وهذا لا يمكن أن يعطي فكرة حول قضية وازنة كالحكم الذاتي. وهنا لا أحد سيختلف مع وزير الخارجية، ولهذا هناك اليوم خلية نحل في الديوان الملكي تعكف على الصياغة التفصيلية لمقترح هدفه هو أن يكون العرض ممثلا فعلا لحل لا غالب فيه ولا مغلوب.
إن الحرب الباردة انتهت منذ عقود، والعالم انقلب رأسا على عقب، ولاعبون كبار جدد دخلوا إلى القارة الإفريقية، ونحن مازلنا في المغرب الكبير نعيش مشاكل ستينيات القرن الماضي. لم يعد السؤال الذي كان مطروحا قبل خمسين سنة قائما، وهو: من هي القوة الأولى في شمال إفريقيا أو من يقود الاتحاد المغاربي؟ السؤال الجديد الذي أصبح مطروحا هو هل بالمغرب الكبير اليوم مازال يمكن أن نشكل تكتلا مؤثرا على المستوى الإقليمي والدولي اقتصاديا وثقافيا وأن نكون أندادا للقوى الكبرى التي لا تتكلم إلا لغة الصفقات والمصالح؟
وكما قلنا عن قرار الأمم المتحدة بخصوص الصحراء بأنه بداية وليس نهاية، فإن نهاية قضية الصحراء ستكون أيضا بداية لورش أكبر وهو بناء مغرب الوحدة الكبير، الذي سيزيد من ثلاثة إلى أربعة نقاط في نسبة نمو الدول المغاربية برمتها، وسيجعل هذا التكتل هو الأقوى في إفريقيا، ولا أعتقد أن هناك فرصا للتكامل بين الدول أكثر مما يوجد في المغرب الكبير طاقيا وفلاحيا وخدماتيا وسياحيا وثقافيا وقوة تفاوضية وفائدة للشعوب وإفادة للأشقاء والشركاء.
باب التفاؤل كبير حتى ليخال المرء أنه حلم جميل، حتى ولو كان الواقع صعبا ومثقلا بالكوابيس. ولكن كما قال الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.






