أطل المشرع المالي برسم مشروع قانون مالية 2026 بالمادة رقم 8 مكرر متضمنة أحكام تعديلية للمادة 9 من قانون مالية 2020 التي منحت الدولة والجماعات الترابية الحصانة في مواجهة تنفيذ الاحكام والقرارات القضائية الصادرة ضدها.
بالعودة إلى مشروع قانون المالية لسنة 2026 نجد الحكومة تقدمت أو استدركت المشروع على مجلس النواب في الصيغة الأولى بإدخال تعديلات عليه، من خلال المادة 8 مكرر وذلك بتغيير الفقرة الثالثة من المادة التاسعة التي تنص على أنه إذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية، يتم عندئذ تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الأمر بالصرف وجوبا بتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانيات السنوات اللاحقة وذلك في أجل أقصاه أربع (4) سنوات ووفق الشروط المشار إليها أعلاه، دون أن تخضع أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها للحجز لهذه الغاية. بالتالي فعوض أربع سنوات أضحت ست (6) سنوات، وأضافت فقرة رابعة تنص على أنه تستفيد الأحكام القضائية التنفيذية النهائية الصادرة قبل فاتح يناير 2026، والتي تعذر تنفيذها داخل أجل أربع سنوات من سنتين إضافيتين ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ، دون أن تخضع أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها للحجز.
بالرجوع إلى تقرير الوكالة القضائية للمملكة لسنة 2022 فقد صاغت دراسة حول المادة رقم 9 من قانون مالية 2020 بمجموعة من المبررات والمسوغات التي تبرر شرعيتها مستعينة في ذلك بعدد من الفصول الدستورية والاحكام العامة الواردة في القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية وهي المادة نفسها التي استعملتها في تقديم دفوعها في الملفات التي تروم التنفيذ على الدولة، بل اعتبرت الوكالة المذكورة أن السماح لدائن الدولة بالتنفيذ بالحجز على أموال الدولة بما سيترتب عليه من غل يد الإدارة عن تدبيرها فيما أعدت له من تحقيق النفع العام سوف يؤدي إلى المساس بانتظام المرفق العام لمجرد مصلحة دائن عادي قد لا تتناسب درجة حماسه في التنفيذ ضد الإدارة مع مبلغ دينه وهنا يغدو القانون عنصرا هادما للدولة
إن المادة التاسعة في صيغتها الأولى أو في الصيغة المعدلة تطرح عدد من الملاحظات:
1-إن عدم التنفيذ يضرب في الصميم حرمة وهيبة وقدسية القضاء وتزرع الشك حول فعالية ويتعارض مع الآمال المعقودة على القضاء في بناء صرح دولة الحق والقانون، فبدون تنفيذ الأحكام تصبح عديمة الجدوى والفعالية ويفقد الناس ثقتهم في القضاء ويدب اليأس في نفوسهم وينعدم الأمن والاستقرار، وذلك كما يقول صاحب الجلالة الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته "يجر المرء إلى تفكير آخر هو انحلال الدولة".
2-الخطاب الملكي السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة (14) أكتوبر (2016) على ضرورة وأهمية تنفيذ الأحكام القضائية من طرف الإدارة، حيث جاء في الخطاب السامي ما يلي: كما أن المواطن يشتكي بكثرة، من طول وتعقيد المساطر القضائية، ومن عدم تنفيذ الأحكام وخاصة في مواجهة الإدارة، فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها، وكيف المسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي ؟
3- الفقرة الأولى من الفصل 107 من الدستور المغربي تنص على أن: "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية."،
4-الفصل 117 من الدستور المغربي ينص على أنه: "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون."؛
5-إن الفصل 126 من الدستور المغربي ينص على أن الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع، ويجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة لتنفيذ هذه الأحكام.
6-من المتفق عليه أنه لا قيمة للقانون بدون تنفيذ، ولا قيمة لأحكام القضاء بدون تنفيذها، ولا قيمة لمبدأ الشرعية في الدولة ما لم يقترن بمبدأ آخر مضمونه احترام أحكام القضاء وضرورة تنفيذها.
7-أن الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به والتي لم يتقرر إيقاف تنفيذها طبقا لمقتضيات المادة 361 من قانون المسطرة المدنية والمادة 436 من نفس القانون لوجود صعوبة واقعية أو قانونية حول تنفيذها، خصوصا أحكام الإلزام، تكون الإدارة ملزمة بتنفيذها طبقا للضوابط القانونية المقررة في هذا الشأن.
8-إن من مبادئ المالية العمومية مبدأ عدم تضمين الميزانية العمومية قاعدة تشريعية أي ان الميزانية لا تستطيع أن تضم فرسان موزاناتية وهو ما يُعرف بالفرنسية بـ Cavalier Budgétaire إلا أننا لم نتخلص من هذه الحالة لأن أغلب قوانين المالية السابقة تتضمن كثيراً من المواد القانونية التي لا دخل لها في الميزانية، ويجب أن تحذف هذه المواد من الميزانية وتقدم بمشروع قانون مستقل والا نكون قد أسأنا لمبدأ مهم من مبادئ قوانين الموازنة.
ويبقى السؤال المطروح: ماذا ينفع أن يجتهد ويبتكر القاضي الإداري في إيجاد الحلول والطرق الناجعة بما يتلاءم وصون الحقوق والحريات والمشروعية، إذا كانت أحكامه مصيرها الموت، فما يبتغيه متقاض من رفع دعواه لدى القضاء ليس هو إغناء الاجتهاد القضائي في المادة الإدارية بل استصدار حكم لصالحه يحمي حقوقه ويعوضه عما لحقه من ضرر.
ومن تم فتجاوز هذا الامر كان يتطلب في مستويات معينة:
-استغلال محطة مشروع مراجعة قانون المسطرة المدنية وتضمينه مسطرة خاصة لتنفيذ الاحكام والقرارات القضائية الصادرة في مواجهة أشخاص القانون وتجميع المقتضيات المتفرقة بخصوص تنفيذ الاحكام ما بين نصوص عامة ونصوص خاصة ومراسيم وقرارات، خاصة أن المحكمة الدستورية في قرارها رقم: 255/25 م.د بمناسبة بتها في مدى مطابقة القانون رقم 23.02 الذي يتعلق بالمسطرة المدنية للدستور لم تلتفت إلى أن المادة 502 أوردت بندا يتيما بالقول إن أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية لا تقبل الحجز.
-ضرورة إجراء تدخل تشريعي من أجل الحد من تعسف الإدارة بهذا الشأن ضمانا لمصداقيتها، وصونا لثقة المتقاضين في أحكام القضاء وما تكتسيه من قدسية، وطالما أن الأمر يتعلق بمشاريع ترصد لها ميزانيات وتكون محلا لدراسات قبلية، وذلك من خلال التنصيص بشكل واضح على آجال محددة لتنفيذ الشق المتعلق بالتعويض.
-تطبيق المادة 8 مكررة من قانون المالية لسنة 2020 لكونها تمنع للآمر بالصرف أو من يقوم مقامه في إطار الاعتمادات المفتوحة بالميزانية العامة وبميزانيات الجماعات الترابية ومجموعاتها، أن يلتزم بأي نفقة أو إصدار الأمر بتنفيذها لإنجاز مشاريع استثمارية على العقارات أو الحقوق العينية بالاعتداء المادي ودون استيفاء المسطرة القانونية لنزع الملكية لأجل المنفعة العامة وبالاحتلال المؤقت.
ومن تم مادامت الاحكام القضائية هي عنوان الحقيقة القانونية فإن المادة التاسعة في الأصل والتعديل الجديد تحمل في طياتها دعوة صريحة على تحصين ممارسات الإدارة في تعليق تنفيذ الأحكام القضائية، بل تدفع إلى الشك في المبدأ الدستوري الذي ينص على أن «السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، في أنه نجد بالمقابل أن القانون يمنع على المحاكم عرقلة عمل الإدارة.






