للصورة زمن للولادة وزمن للموت كما يعلمنا ريجيس دوبري، وبين الزمنين ترتسم حياة الصورة عبر الزمان وتسافر عبر الأمكنة محملة بقيمها وبأسئلتها وبكذبها أيضا، يتشاركها الناس في فضاءات التواصل الاجتماعي، حتى الأكثر حميمي منها، منذ زمن بعيد تخلت الصورة عن براءتها وحيادها كوسيلة للإقناع وعرض الحقائق بالدليل الواضح.. إنها هنا ليست لذاتها كانتصار للحقيقة.. إن وظيفتها ذات طابع وجودي كما لو انتقلنا من العيش في الواقع إلى العيش في الصورة، إضافة إلى وظيفة التكييف والتوجيه، التي تبدو أقرب إلى غسل الدماغ، إزالة الأفكار والمعلومات غير المرغوب فيها لدى المتلقي وزرع أخرى بديلة تخدم مصالح المرسل لوحده..
تختلف وسائل توظيف الصورة من التحريف إلى إعادة الإخراج والتوضيب، واستعمال تقنيات الفوتومونتاج والفوتوشوب والفلترات… لتزوير الوقائع والأحداث، واللعب بمكونات الصورة أو تعديلها على غير حقيقتها الواقعية.. عصرنا هو عصر الصورة بامتياز، لكن لا ننظر للجانب الآخر من المرآة وهو أن الصورة اليوم تساهم في تنميط العالم، تنسخ الأشباه، تخلق النسخ الموحدة والمنمطة في قالب استهلاكي.
بالأمس كانت الصورة الفوتوغرافية أشبه بتثبيت شريط الزمن، يتذكر رولان بارت صورة أمه ولحظة الضغط على القرص اللاقط أشبه بطلقة رصاص، الصورة والموت أي علاقة ممكنة؟
كانت الصورة ذات بعد تزييني، جمالي، في حين اليوم تشكل الوعي وتقولبه، تدمر القيم، تحول الإنساني من الواقعي إلى الافتراضي، تشيء كل شيء لتجعله بضاعة قابلة للبيع والشراء كما يقول بودريار، هل نجحت الصورة في هدم شرط وجودنا البشري؟ أين توجد الذات وأين يوجد الجسد في الصورة اليوم، بل أين الوجه الإنساني الذي نلتقطه لوجهنا باستمرارفي كل سيلفي؟ حين تشتغل الصورة كعلامة بإفراط تفقد مصداقيتها، تدخل مجال الالتباس، تصبح لها وظائف أخرى، كيف تقلب الصورة اليوم مفاهيمنا عن العالم وتشيئه؟
أصبحت الصورة مرتبطة بعالم الأنترنيت والهواتف الذكية والحواسيب المتطورة، وتعتبر وسائط التواصل الاجتماعي مجالها الحيوي، كيف حطمت هذه الوسائط الحدود بين ما هو عام ومشترك، وبين ما هو خاص وحميمي؟ ومخاطر أن يفقد الإنسان حياته الخاصة؟ تلعب شبكات التواصل الاجتماعي دورا خطيرا في هدم أسس الحياة الواقعية من أجل ترسيخ العيش في الافتراضي، وهو ما يؤثر على الفعل الإنساني لتغيير الواقع، كما يؤثر بشكل سلبي على خيارات النظام الديمقراطي، للحفاظ على الجوهري مما راكمته البشرية في ظل هيمنة مطلقة للرقمي- الديجيتالي الافتراضي؟
لا يمكن الحديث عن الصورة، دون التطرق إلى موضوع السيلفي، كما تحدثت عنه إلزا غودار، كيف أغرق السيلفي الحياة الإنسانية في التفاهة والأنانية، وكيف أصبح السيلفي تعويضا سيكولوجيا لذوات فارغة تحس من خلال صورها المفرطة الذاتية والمنمطة، أنها مركز العالم؟ ما الرهانات الاجتماعية والثقافية التي يحاول السيلفي التكتم عليها ومواراتها، لإخفاء التحولات العميقة في علاقة الإنسان بذاته وبالآخر؟
أنا أوسيلفي إذن موجود، عوض أن تكون الذات المؤسسة للعقل الأنواري هي مصدر إثبات كينونة الموجودات، أصبحت تنميطية، مسطحة، أين يكمن البعد النرجسي المرضي لصورة الوجه في السيلفي: حين يسعى المرء باستمرار ليرى صورته بشكل فتيشي أي ذاته مرئية على شاشة الهاتف؟
يعكس التقاط السيلفي بإفراط مرضي، تهميشا للعالم، وإخفاء لضعف وجود الذات وفراغها عبره تسعى “الأنا” الى ترويج صورة غير حقيقية لما هي عليه، كيف يمنح السيلفي وهم الاعتراف بـ”أنا” لا تطمئن لوجودها إلا عبر السنابشات والشاشة المرئية للهاتف الذكي؟ والجيمات أو اللايكات؟
كان البروفايل عبر الصورة الفوتوغرافية أشبه بتثبيت شريط الزمن، لاقتناص لقطة للديمومة، اليوم مع السيلفي أين توجد الذات وأين يوجد الجسد في الصورة، بل أين الوجه الإنساني الذي نلتقطه لوجهنا باستمرار؟ ظلت الصور تعكس بعدا حميميا، مخفيا، اليوم هي مشترك، وقابل للتزييف والتغيير والتحويل عبر الفوطوشوب والسنابشات.. صور باردة تقذف عبر العالم الافتراضي بحثا عن حضور مستحيل… عالم بدون غير هو عالم فاقد للمعنى، وهذا ما ترسخه وسائط التواصل الاجتماعي، أسطرة العيش في عزلة الافتراضي بوهم وجود الأنا مع آخرين مفترضين..
أفقدنا السيلفي متعة وجهنا الشخصي ومعه متعة الإحساس بالألم والفرح، بالأمل واليأس، بالجمال والقبح، بقيمة العلاقات مع ذواتنا ومع الآخرين ومع الواقع الطبيعي.. ومع ذلك كلنا سيغني: زيدني سيلفي زيدني باش نحس بوحدي كنضوي.