رأي

محمد كرم: العزف على البيانو

قبل حوالي ثلاثين سنة، و في وقت كنت على مشارف انهيار عصبي بسبب ظروف اجتماعية صعبة للغاية، تفضلت إحدى الجهات مشكورة بإبلاغي بواسطة رسالة متنبرة بفوزي برحلة سياحية مدفوعة التكاليف إلى جزيرة زنجبار الجميلة مع ذكر إسم شركة الطيران التي ستتولى نقلي إلى هناك و التواريخ الممكنة لسفري و مدة الإقامة و إسم الفندق و لائحة الخدمات المؤمنة. و حسب مضمون الخطاب فقد تم انتقائي بواسطة حاسوب (كانت الحواسيب في ذلك العهد ما تزال مصدر إبهار) و على أساس معايير لم يفصح عن طبيعتها. و أردفت الرسالة ذاتها بأنه للاستفادة من هذا العرض المغري و الاستثنائي و المجاني ما كان علي سوى ملء الاستمارة المرفقة و إضافة صورة حديثة مع تمكين الجهة إياها من 200 دولار أمريكي، و هو مبلغ يمثل مصاريف الملف. هل هناك عاقل على وجه الأرض له القدرة على تجاهل فرصة كهاته ؟ طبعا لا، و لهذا السبب نفذت حرفيا ما طلب مني ... و مازلت في انتظار الرد و كلي أمل في ولوج المطار و ركوب الطائرة و النزول بفندق الأحلام و السباحة بالمحيط الهندي و الرقص بملاهي الجزيرة و التجول بشوارعها و ساحاتها و حدائقها و أسواقها و مواقعها الأثرية مع التقاط أكبر قدر ممكن من الصور و السيلفيات، بل و في مد جسور التواصل مع أهلها أيضا في أفق تعزيز التعاون المتعدد الأبعاد القائم بين تنزانيا و المغرب بما يخدم مصالح شعبي البلدين الصديقين و بما يحقق ما يصبوان إليه من مجد و عزة و رفاه و ازدهار.

و بينما كنت أتأهب لأداء فاتورة عملية ولادة ابنتي الصغرى بإحدى المصحات عقب الاستفادة و بصعوبة من قرض بنكي حملت لي علبة بريدي الإلكتروني خبرا بدد حالة الغم التي تسبب فيها الالتجاء الجديد إلى الاستدانة و أضاف إلى فرحة استقبال المولودة الجديدة فرحة أخرى لا تقل روعة ... بل أكثر روعة !! فقد وصلتني رسالة من شخص قدم لي نفسه على أنه محام و بأن أحد موكليه ـ و هو رجل أعمال مصنف ضمن أثرياء إمارة أندورا و يعيش أيامه الأخيرة وحيدا على فراش المرض ـ قد كلفه بالبحث عني بهدف تمكيني من ثروته بعد مماته في غياب ورثة شرعيين و هي ثروة تزن مليون و 950.000 دولار بالتمام و الكمال. أما بخصوص طريقة انتقائي للظفر بهذه الهبة الربانية فقد أكد لي المحامي إياه بأن ذلك تم على نحو اعتباطي و اعتمادا على لائحة أسماء يحتفظ بها أحد المواقع الإلكترونية ضمن أرشيفه الزاخر. و على سبيل الزيادة في جرعة الإغراء طلب مني محرر الرسالة التصرف بسرعة بإبداء الرغبة في الاستفادة من العرض في أقرب وقت ممكن و بإرسال 500 دولار ـ و هو المبلغ الذي يشترطه الموثق للشروع في إجراءات نقل ملكية الأموال و العقارات مباشرة بعد الموت الوشيك للثري ـ و ذلك حتى لا يضطر إلى إسقاط إسمي و استبداله بإسم آخر. هل هناك بالغ ذو بصيرة بمقدوره تجاهل رسالة كهاته بعد قراءتها ؟ طبعا لا ... و إلى يومنا هذا ـ و بعد مرور حوالي عشرين سنة على هذين الحدثين السعيدين ـ يبدو بأن منقذي المحتمل من ضنك العيش لم يدخل بعد مرحلة الاحتضار.

و في عز أزمة كورونا و ما رافقها من احتياطات احترازية و احتقان اجتماعي و ضغط نفسي و شلل شبه كلي للحركة الاقتصادية اتصلت بي إحدى شركات الملاحة التجارية العالمية لتزف لي خبر قرب توصلي بصندوق شحن حديدي بداخله كمية كبيرة من كاميرات المراقبة من الجيل الجديد و ذلك بقصد تسويقها محليا مع احتفاظي ب 70 بالمائة من قيمتها. و استنادا إلى المراسلة أيضا فإن مصاريف الجمارك قد تم أداؤها مسبقا من لدن المصنع و بأن كل ما علي فعله هو أداء تكاليف الشركة المكلفة بالتعشير ـ و المحددة في 750 دولارا ـ و ذلك بواسطة حوالة دولية داخل أجل لا يتعدى ثلاثة أسابيع. هل هناك راشد ذو بعد نظر يستطيع أن يبقى مكتوف اليدين أمام هكذا تحفيز في ظروف استثنائية و صعبة ؟ طبعا لا. انقضضت على الفرصة و قمت بالإجراءات اللازمة ... و إلى حدود الساعة مازلت ملازما الميناء في انتظار الشحنة الموعودة.

و خلال فترة شهدت انعزالي عن الناس و شروعي في دراسة جدوى الانتحار كاتبني ممثل عن إيلون ماسك ليخبرني بأن الأخير يرغب في الاستثمار في منطقتي و بأن حضوري البارز و المتميز بالسوشل ميديا و بموقع مهني عالمي معروف هو الذي هداه إلى التفكير جديا في إقامة علاقة شراكة مثمرة معي بتنسيق مع صندوق النقد الدولي و ذلك بحكم معرفتي المحتملة بالسوق المحلية و احتياجاتها. و لفتح قنوات الحوار مع رمز الثراء الجديد لم يطلب مني الممثل إياه أكثر من الإدلاء ببعض البيانات الشخصية و الضغط على الرابط المتواجد بأسفل الرسالة، و كذلك كان ... و حتى اللحظة مازالت الكرة في المعسكر الآخر و مازال إيلون ماسك يتردد في تركيب رقمي و ربط الاتصال بي شخصيا حتى يتسنى لنا وضع اللبنات الأولى لتعاوننا الواعد.

كما ترون، أعزائي القراء، مازالت الدنيا بخير مادام هناك في أكثر من مكان أناس طيبون يحبوننا في الله و يتنافسون في خدمتنا و لديهم استعداد تلقائي لإسعادنا بأكثر من طريقة و خاصة بإغراقنا بالمال و بكل ما يمكن للمال تأمينه.

و بين الفينة و الأخرى أصادف ـ كما تصادفون أنتم أيضا ـ فيديوهات لا تقدر بثمن تعرف بأحذية تمنع انتفاخ أوردة الساقين أو منامات تنظم دقات القلب أو مفاتيح تشغل محركات كل أصناف السيارات إضافة إلى فيديوهات يتيح تطبيق محتواها التقاط القنوات التلفزيونية الفضائية المؤدى عنها أو توفير خدمة الإنترنت أو توليد الكهرباء مجانا و غير ذلك من التقنيات و الحيل و الاختراعات العجيبة التي لا يبتغي مروجوها سوى خير الإنسانية و جميل الأثر و النظر إلى وجه الله تعالى في الفردوس الأعلى.

و من حين لآخر أيضا لا مفر من مواجهة مروجي الوصفات السحرية القادرة على تدجين الأزواج و جلب الحبيب و تأمين النجاح، إضافة إلى الأدوية الفعالة القادرة على علاج كل أصناف الاختلالات الصحية من سقوط الشعر إلى موت خلايا المخ مرورا بالسكري و ارتفاع الضغط و الضعف الجنسي و الروماتيزم و السرطان و الإيدز و غيرها من الأمراض المزمنة بشكل خاص. بل هناك من يقسم بأغلظ الأيمان بأن الدواء الذي يروج له من شأن استهلاكه بشكل منتظم و بدون انقطاع تأجيل الموت إلى حين استيفاء العدد اللازم من الحسنات المؤهل لدخول الجنة.

و من منا لم يعترض طريقه و لو مرة واحدة في العمر شخص فوق كل الشبهات ليعرض عليه و بطريقة تجمع بين التكتم و السرعة ساعة يدوية من الذهب الخالص أو من النوع النفيس و الراقي بأقل من عشر ثمنها لا لشيء إلا لكونه وجد نفسه عالقا بمدينة تبعد كثيرا عن مدينته الأصلية أو لكونه يمر من ظروف صحية قاهرة تستلزم توفره على ما يكفي من السيولة النقدية لمواجهة تكاليف العلاج ؟

و من منا لم يسبق له أن تشرف بتلقي وعد باستلام هاتف خلوي أو حاسوب محمول أو لوحة إلكترونية فقط مقابل تحويل الرسالة الواردة عليه إلى أكبر عدد ممكن من معارفه ؟

و من منا لم يسبق له أن قرأ إعلانا عن حاجة دولة تعاني من تراجع نسبة الخصوبة أو من ارتفاع نسبة الشيخوخة إلى 50 ألف سائق و 120 ألف عامل موسمي و 13 ألف مضيفة استقبال بأجر يومي لا يقل عن 100 دولار؟

... و لا يكاد يمر أسبوع كامل دون أن نسمع باستضافة أحد مخافر الشرطة لامرأة وعدت العشرات بالتوظيف مقابل مبالغ مالية معتبرة بعد ادعائها بأن لها معارف بمطبخ رئيس الحكومة، أو لرجل وعد المئات ب "تأشيرة مجاملة" بعد ادعائه بأن له القدرة على الوصول إلى الأمير محمد بن سلمان عن طريق خياطه الذي تربطه به علاقة صداقة قديمة و متينة، أو لأشخاص وعدوا مجموعة من الراغبين في الهجرة السرية بأن عملية التهجير المكلفة و التي أبدوا استعدادهم للانخراط فيها و هم في كامل قواهم العقلية ستتم عبر غواصة لا ترصدها رادارات قوات خفر السواحل الأوروبية.

إضافة لها علاقة ثابتة و وطيدة بما سبق : سئل رجل موصوف بقوة الفطنة عن الفرق بين اللص و النصاب فقال :

"اللص ملاكم ... أما النصاب فهو عازف على البيانو."