بعد ثمانية أشهر، اقتنع الرئيس الجديد بأنه لا يمكنه تنفيذ برنامجه دون أغلبية برلمانية. فقرر حل البرلمان، ونظمت انتخابات سابقة لأوانها يوم 17 نونبر، حيث فاز حزبه بأغلبية مريحة، وأقر الخصوم بخسارتهم.
هذه هي داكار، المدينة التي نظمت 12 انتخابات رئاسية منذ 1963، إلى جانب عدد اكبر من الانتخابات التشريعية.
من أين لهذا الشعب كل هذا النضج، رغم أن قدره الجغرافي وضعه في منطقة لم تعرف الهدوء تاريخيًا؟
قبل أقل من شهرين، كان العالم يستهزئ من عبد المجيد تبون وسوء إخراجه لنتائج رئاسيات الجزائر، ولم تجنبه الفضيحة سوى جشع الغرب للغاز والبترول. وقبل أيام فقط، كان قيس سعيّد في تونس يجول كالطاووس في ساحة الحملة الانتخابية بمفرده، يمنع من يشاء ويعتقل من يشاء، مستغلًا نخبة أنهكتها انقسامات ما بعد الربيع العربي ومجتمعًا لم يعد يقوى على توفير قوت يومه.
في داكار، تابعنا جميعًا كيف حاول الرئيس المنتهية ولايته تأجيل الانتخابات لبضعة أشهر، لكن الشارع ونخبته المدنية والسياسية تصدوا لذلك، وأسقط المجلس الدستوري هذا القرار. فخضع الرئيس احترامًا للقضاء.
لقد أصبحت الممارسة الديمقراطية في السنغال ثقافة شعب وليست مجرد شعار نخبة. حتى أن الناخب السنغالي الذي صوت للرئيس بصيرو فاي في مارس، صوت لحزبه في نونبر ليمنحه كل الوسائل الدستورية والقانونية لتنفيذ وعوده استعدادًا ليوم الحساب.
بهذا الوعي السياسي العام، تجاوز السنغاليون حتى فرنسا التي استعمرتهم لعقود، والتي تعيش عبثًا ديمقراطيًا يُطلق عليه “التعايش” (cohabitation)، ما يجر البلاد إلى تجاذبات تجعل المواطن العادي يكره السياسة والسياسيين.
نتذكر جميعًا عندما تعايش الرئيس فرانسوا ميتران الاشتراكي مع رئيس الوزراء المحافظ جاك شيراك، ثم مع إدوارد بلادور. أو عندما أصبح جاك شيراك رئيسًا للجمهورية واضطر للتعايش مع ليونيل جوسبان الاشتراكي كرئيس للوزراء. وها هي باريس الآن تعيش وضعًا غريبًا على المستوى المؤسساتي والسياسي بين الإليزيه وماتينيون وقصر بوربون، مقر الجمعية الوطنية الفرنسية (Assemblée nationale). كم من الجهد يُهدر، وكم من الفرص تضيع!
ومع ذلك، يبقى السؤال المحير: كيف لبلد رفض الاستبداد أن يطبع مع الفساد في الاقتصاد والإدارة والمجتمع؟
هذا هو البلد الوحيد في هذا الركن الأفريقي الذي لم يعرف انقلابًا عسكريًا، يوم كانت الانقلابات رياضة وطنية في كل إفريقيا، وإن بدا أنها عادت من جديد. البلد الذي اختار التعددية الحزبية كأسلوب لتدبير الاختلاف، يوم كان الحزب الوحيد موضة العصر في إفريقيا، وفي عز الحرب الباردة التي لم ترفع إلا في بداية التسعينات.
السنغال يحتل المرتبة 169 عالميًا في مؤشر التنمية البشرية، وهو ترتيب يشعر به المواطن يوميًا في معيشته وتعليمه وصحته. كما يحتل المرتبة 70 في مؤشر الفساد. فلماذا لم تتوفق الديمقراطية في مواجهة هاتين الآفتين؟
صحيح أن هناك من راهن على انهيار الديمقراطية في السنغال، بدعوى أن الفقر والديمقراطية لا يجتمعان. لكن قوة داكار أنها جعلت من الديمقراطية اختيارًا مجتمعيًا. لقد حسمت مع المناصفة بين الرجال والنساء في كل المناصب التمثيلية منذ زمن. هذا البلد الإفريقي شهد في سنة 1963 انتخاب السيدة كارولين فاي ديوپ Caroline Faye Diope لتكون أول امرأة تدخل البرلمان منذ اكثر من ستين سنة .
داكار أيضًا رسخت ثقافة التعايش الديني في بلد ذي أغلبية مسلمة وزوايا متعددة، كما حسمت في علاقة الدين بنظام وتدبير الحكم.
لقد سلّم السنغاليون للرئيس الحالي وأغلبيته كل المفاتيح للوفاء بوعوده الانتخابية وبرنامجه الرئاسي والحكومي، القائم على محاربة الفساد والفقر. والرئيس بصيرو فاي يعلم أكثر من غيره أن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها.
ذاك هو الدرس السنغالي للإخوة في الجنوب، وقبلهم للأصدقاء في الشمال.