مازالت الذاكرة تحتفظ، من أيام الطفولة البعيدة الشقية، بشخصية «قتال لمشاش». عند ظهور خيوط الضوء الأولى، كنا نصبح على اكتشاف إحدى القطط متدلية من على سور المرحاض العمومي، الموجود داخل الثكنة العسكرية، التي كنا نقيم ببيوتها. والده كان مرابطا بالخطوط الأمامية في الصحراء، لترصد تحركات أعداء الوطن، في حين كان ولده مرابطا بأزقة الثكنة، لترصد أعدائه من القطط. لا أدري ماذا كانت حساباته، التي لم تكن تنتهي يوما، مع القطط السائبة في الأزقة. ظل يكمن لها، ليصطادها على حين غرة، ثم يُمَثِّل ب «جُثثها». كما لا أدري ماذا وقع لذلك الشقي، بعد انقطاع أخباره، في إثر مغادرة الأسرة حي بورنازيل.
لقد غلبت صفة «قتال لمشاش» على اسمه الحقيقي، حتى إني لم أعد أذكره اليوم. كانت حياتنا فارغة بئيسة. ولذلك، كنا نصطنع بطولات وهمية، على غرار بطولة «صاحبنا» في اصطياد القطط، التي كانت تعترض سبيله، أو يعترض -هو- سبيلها عنوة. ولو كانت النياشين تحتسب بعدد القطط المسفوحة دماؤها، لكان صاحبنا قد صار جنرالا عن جدارة واستحقاق. يا لها من أيام شقية، من دون بطولات حقيقية!!!
اليوم، أطوي صفحات الماضي السحيق، وأقترب من الماضي القريب، وفي امتداده الحاضر الراهن. في الحي الذي انتقلت إليه بالمحمدية، المسمى «درب الشباب»، كانت تقيم سيدة تسمى «ربيعة». بعكس «قتّال لمشاش»، ستأخذ ربيعة اسمها الجديد «مولات لمشاش». كانت ربيعة لطيفة جدا مع القطط. ويمكن الزعم بأنها كانت بمثابة الأم الرؤوم لها. كلما تحركت في الحي، إلا تحركت خلفها قافلة من القطط. عناية ربيعة المفرطة بتلك القطط، من حيث الاهتمام بتغذيتها وصحتها، «جلبت» عليها حكايات، ظل سكان الدرب يتناقلونها سرّا بينهم. في إحدى المرويات المتداولة، زعم أولئك أن قطة كانت «رفيقة» ربيعة في السجن، بعد أن دخلته مُتّهمة بقتل زوجها.
نتيجة حدب ربيعة، ستتكاثر القطط في أزقة الدرب. وإن طالت الرعاية الكلاب، أيضا، إلا أن «اختصاص» ربيعة الأساس كان مُوجّها إلى القطط. هذه الحيوانات السائبة صارت أليفة في الحيّ، حتى صارت تعرف وجوهنا مثلما تعرف وجه ربيعة. لقد غدت لا تخافنا على الإطلاق. حتى وهي تتناسل على الطريق، حيث المارة يغدون ويروحون، لا تجدها مبالية بأحد، سواء أكان أبا مع ابنته، أم أخا مع أخته. ربيعة تأتيها بالأكل. ولذلك، فهي ليست بحاجة إلى اصطياد الفئران، أو الإيقاع بالعدو المقيت «سراق الزيت». تأكل القطط، وتتناسل علانية، حتى غدت سمينة. الفراغ، بدون حركة، يودي بصاحبه -ولو طارت قطّة- إلى السُّمنة. هكذا، أخذت القطط تبدو في حيِّنا. ولو رجعت الأيام إلى الوراء، لكانت نهاياتها “السعيدة” مختلفة مع صاحبنا الآخر، “قتال لمشاش”.
لقد تغيرت معاملة السكان للقطط في الأحياء الشعبية. بدأ يحدث هذا منذ انتشار وباء كورونا. فجأة، صار الناس محتاجين إلى فعل الخير. ربما قطة تقود مُحسنا إلى الجنة، وليس إلى سجن ربيعة. لا يعني هذا أن المغاربة كانوا، فِي ما مضى، عدوانيين إزاء القطط. كل «مخلوق» كان في «بلاصتو» فقط. اليوم، الجميع يتسابقون نحو الإحسان إلى القطط. يشترون لها الأكل الخاص بها من السوبر ماركت. أينما حل الزائر بحيّ سكنانا، إلا وجد وجبات القطط منثورة، في شكل حبيبات «قهوية» داكنة، فوق الإسفلت.
القطط تتناسل أمام الملإ، ولا تكفّ عن التكاثر. روائحها القويّة تملأ أزقة الحيّ. وفي الليل، لا يفتر لها صياح، كأنه صياح الجارات المتخاصمات من على شرفات النوافذ. حتى خلال عيد الأضحى، التي كنا نزعم فيها اختفاء القطط، أضحينا نجدها «تتكسّل» فوق الأرصفة. ويوما بعد يوم، وليلة بعد ليلة، بدأت فئة من الناس تتضايق من وجود القطط. كثرتها لم تعد تطاق. البعض صار يشجب البعض بسبب القطط. والسكان صاروا فريقين متنازعين. من أراد رعاية القطط، فليكن ذلك في بيته، وليس في الحيّ السكني، كما قال أحدهم مُوجِّها عتابه إلى آخر.
ما العمل مع القطط إذاً؟
هناك أكثر من حلّ، إلا أن يأتي على يد صديق الطفولة الغابرة، المسمى قيد طفولته: …