رأي

حديث الأربعاء .. عبدالرفبع حمضي: ماكرون والسفير بن عائشة

كلنا نتذكر ذلك اليوم الحزين، الثلاثاء 12 شتنبر 2023، عندما كانت الأرض لا تزال تهتز تحت أقدام سكان منطقة الحوز وسوس بفعل الهزات الارتدادية، حيث كانت فرق الإنقاذ مرابطة في عين المكان تبحث عن المفقودين والضحايا بعد الزلزال العنيف الذي دمّر الأخضر واليابس، الإنسان والحيوان. ففي ذلك الحين، ظهر الرئيس الفرنسي عبر شبكة “إكس” (X)، مخاطباً المغاربة مباشرةً في لحظة تاريخية مؤلمة، والعلاقات المغربية الفرنسية في أسوأ أيامها. بينما كان المغاربة يتسابقون لتقديم المساعدات لأهاليهم، في عين المكان حيث عبّروا عن غضبهم، رغم أن ما قاله الرئيس الفرنسي كان دعماً واستعداداً للمساعدة، ولم يتجاوز حديثه دقيقتين. ولعل ما يبرر غضب المغاربة هو ان بلدهم مملكة لها تاريخ دبلوماسي يتجاوز أربعة قرون لا تقبل ذلك ولو على مستوى الشكل .

من كان يتصور أنه في ظرف سنة واحدة، سيخرج المغاربة في استقبال استثنائي للرئيس نفسه، ويحتضنونه بمشاعر صادقة تفوق البرتوكول، حيث ألقى كلمة عميقة من على منصة البرلمان، مخاطباً ممثلي الأمة ومن خلالهم الشعب المغربي، في حديث تطرق إلى قضايا تاريخية واقتصادية وثقافية وملفات حساسة، بشجاعة تُحسب له في هذه اللحظة.وبلغة جميلة وراقية ومركبة في نفس الوقت حتى أنني تساءلت عن مدى استيعاب وتحصيل بعض النواب والمستشارين ، خاصة وأن معظمهم رفضوا استخدام أجهزة الترجمة، باستثناء عدد قليل جداً. لا أعلم إن كان ذلك لاعتباراتٍ معينة أم فقط لإظهار الثقة. وأعتقد أنهم أحسنوا بذلك، حيث أعطوا انطباعاً مريحاً للرئيس ماكرون وهو يخاطبهم بلغة موليير، حيث بدا أنهم يتابعون حديثه بكل أريحية وهم يحركون رؤوسهم ،ومع ذلك فقد شاب هذه اللحظة التاريخية والسياسية تصفيقاتٌ مبالغ فيها، تجاوزت الحد المقبول حتى بدت في لحظة معينة كأننا في تجمع انتخابي في سوق أسبوعي.

تقاليد مخاطبة رئيس دولة أجنبية لنواب الأمة قديمة، وتعززت في القرن العشرين، وأصبحت جزءاً من العلاقات الثنائية، حيث تُطلق على زيارة الرئيس “زيارة دولة” إذا كانت مرتبة بأعلى مستويات التكريم. ومن أشهر الأمثلة على ذلك، خطاب الرئيس الأمريكي جون كينيدي أمام البرلمان الألماني في برلين سنة 1963 خلال الحرب الباردة، حين قال جملته الشهيرة “أنا من برلين” (Ich bin ein Berliner)، كدعوة واضحة لتضامن الأمم الديمقراطية ضد القمع. 

أو خطاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام الكونغرس الأمريكي سنة 2009، حيث قالت كلمات تُدرَّس الآن في الجامعات العريقة في العلوم السياسية: “الديمقراطية قوة هشة تحتاج إلى التزام كل الأجيال”.

لا شك أن المحللين السياسيين والإعلاميين في أوروبا سيقارنون بين خطاب إيمانويل ماكرون في ولايته الأولى سنة 2018 أمام البرلمان الألماني، الذي شدّد فيه على التعاون الأوروبي، وخطابه في البرلمان المغربي ، حيث عاد فيه إلى التاريخ، مستشهداً بالسفير المغربي عبد الله بن عائشة، الدبلوماسي والأميرال، الذي يرمز إلى القوة والحنكة. هذا الأخير رفض التفاوض مع مبعوثي الملك لويس الرابع عشر إلا بعد استقباله لكونه سفيراً معتمداً للسلطان مولاي إسماعيل، وحصل ذالك وألقى حينها خطاباً مهماً باللغة العربية ترجمه الرسام الفرنسي الشهير يوجين ديلاكروا. وعاد ماكرون واستعرض بعد ذلك أمام النواب المغاربة والعالم العلاقات المغربية الفرنسية، ومن منطلق مسؤوليته لم يتجاهل جراح الفترة الاستعمارية، بل تطرق لها كجزء من التاريخ المشترك.

ولعل أقوى لحظات الخطاب كانت حينما جدد ماكرون اعتراف باريس بمغربية الصحراء، بصوت حاد ومخارج حروف واضحة متجاوزاً حدود المغرب والجزائر المغلقة عند معبر “جوج بغال”، والعقيد لطفي فاهتزت قبة البرلمان تقديراً لشجاعة الرئيس واحتراما لفرنسا.

في تقديري، ورغم أن ماكرون هو رابع رئيس فرنسي يلقي كلمة أمام البرلمان المغربي بعد شيراك وساركوزي وهولاند، فإن خطابه هذا يبقى الأكثر أهمية من حيث الأثر السياسي.

أما رفض لويس الرابع عشر تزويج ابنته للسلطان مولاي إسماعيل بعد أن أثنى عليها السفير عبد الله بن عائشة، فتلك حكاية أخرى.


.