تحليل

الهروب الجماعي فكرة أم نزوة ؟

ابراهيم إغلان
تابعت، كما العديد من المتابعين لحظات مصورة وموثقة تأرخ لمسعى جماعي لشباب، يبدو أنهم اتفقوا بفعل فاعل، على يوم محدد زمنيا ومكانيا، للانتقال إلى مدينة مغربية مستعمرة إسبانية.

إنها ظاهرة جديدة لتحدي الحدود والوجود، كما لو أنها حربا معلنة بغض النظر عن أسباب النزول وتحديات المثول، وهي عديدة على كل حال وليس المجال هنا يسمح بالتفصيل في حيثياتها وتداعياتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية. لكن الظاهرة واقعية وماثلة أمام العالم، وبالتالي يفترض فهمها وتحليلها وتأويلها.

شهدت مدينة الفنيدق وباب سبتة تحديدا يوم 15 شتنبر 2024 مئات بل آلاف من الشباب المغاربة وغيرهم من جنسيات افريقية وهم يركضون بلا خوف فوق الجبال وبين أحياء المدينة للوصول إلى سياج المدينة السليبة، رغبة منهم في معانقة عالم آخر يعتقدون بكونه الخيار الوحيد للهروب من واقع يرفضونه، أو على الأقل بداية عيش كريم، وبالتالي القطيعة مع ما يدعونه بوطن لا يستحقونه. تلكم بعض ما عبر عنه شباب لوسائل إعلامية أو غيرها من تدويناتهم في وسائل التواصل الاجتماعي.

المشهد مؤلم حقا، معركة حية بين رجال الأمن وهؤلاء الشباب، وقد لا تنتهي فصول المشهد بهكذا إجراءات أمنية صارمة للحيلولة دون تفعيل فكرة الهروب الجماعي ما أعنيه هنا أن كل شروط هذاالفعل مكتملة بالتحفيز والتجييش والتحريض والتأطير ، وما تحديد الزمان والمكان سوى مرحلة متقدمة من تحقيق هذا المسعى الجماعي.

 ولعل هذا التوصيف قد يوقظ أسئلة شائكة وقد يستفزنا لفهم وتحليل هذه الظاهرة الغريبة في مجتمعنا الذي بات خاضعا لسلطة وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بالنسبة للشباب التائه والضائع، والذين هم خارج التعليم والعمل أليس من حقنا مساءلة هذه الظاهرة في بعدها الرمزي، دون أن يعني ذلك تجاوز معرفة الأسباب والمسببات، وهي كثيرة ومركبة، بلإن الأمر في غاية الخطورة على مستوى بنية المجتمع وتماسكه وأمنه. 

إن فكرة الهروب الجماعي من الوطن قد لا تبدو نزوة شباب غرر بهم أو كونهم يفتقدون للوعيبتداعيات هذه الفكرة وعلى أهمية هذا المعطى، فإن المسألة مرتبطة بفعل مفكر فيه، وبالتالي على الدولة التعامل مع الظاهرة تلك بكثير من الحكمة والحذر والاستباقية كما تعودنا على ذلك في كثير من المناسبات والسياقات

أولا: يجب الاعتراف بان حدث الهروب الجماعي هو حدث مشين على كل المستويات، كما أن متابعته من قبل الاعلام الدولي ومع مختلف القراءات لفصوله قد يضر بصورة البلد الذي يحاول رغما لتحديات أن يطور قدراته الذاتية في مواجهة مشاكله الداخلية من جهة؛ و سعي أعدائه لإحباطنجاحاته السياسية والدبلوماسية والاقتصادية من جهة أخرى.

ثانيا: إن الدولة المغربية معنية بهذا الحدث حكومة وأحزابا ومجتمعا مدنيا، والمسؤولية مشتركة وأية محاولة لتحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك، هو نوع من العبث إن لم أقل هروبا آخر نحو المجهول الذي تؤثثه المزايدات السياسية النفعية أو الغياب الصارخ لدور الجمعيات المدنية في تأطير الشباب، ناهيك عن كثير من المشاريع الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والتي لم تستطع الدولةتفعيلها بشكل أو بآخر. ولا يمكن بأي حال أن يترك الأمر فقط لرجال الأمن لمواجهة هذه الظاهرة وخطورتها، على أهمية الجانب الأمني.

 لذا فالمسؤولية مشتركة بين كل الفاعلين في المجتمع المغربي.

ثالثا: يجب قراءة الظاهرة بشكل شمولي، وضمن سياق داخلي وإقليمي، وبالتالي فأصحاب فكرة الهروبالجماعي، سواء من داخل المغرب أو خارجه، بحشدهم لهذا العدد الكبير من الشباب، إنما هم واعون بالتحدي الذي خططوا له، وعبروا عنه في العالم الافتراضي وترجموه على أرض الواقع، كما أن السلوك العنيف الذي مارسه البعض من هؤلاء الشباب حيال رجال الأمن، إلى جانب رغبتهم وإصرارهم لاختراق الحدود بكل الوسائل، كل ذلك يندرج في سياق جديد، مبعثه الأساس فئة من المجتمع، غالبيتهم شباب قاصر، هم بالتأكيد خارج التأطير وربما خارج الاهتمامات الرسمية والحزبية والجمعوية. 

إنها فئة حاضرة في الملاعب الرياضية كما هي فاعلة في وسائل التواصل الاجتماعي، قادتها ظروف ذاتية وموضوعية للتعبير عن ذاتها بأشكال جديدة ، فردية وجماعية، وهي فئة أيضا تعتبر نفسها غير معنية بالدراسة والعمل تواجه مصيرها لوحدها، وكثير من هذه الفئة يرى في الهجرة السرية الحل الوحيد للتخلص من الواقع والبلد على حد سواء.

رابعا: هكذا تصبح الهجرة السرية هجرة علنية في تحدي صارخ باستعمال كل وسائل الاتصال الممكنة، والاتفاق على المكان والزمان والتنسيق المحكم للانطلاق نحو الهدف. إذن نحن أمام فئة مجتمعية تفكر وتعلن العصيان أمام القانون والسلطة، وانتقالها من السرية إلى العلنية خير دليل على ذلك.