انهار النظام العسكري السوري بشكل غير متوقع، أو على الأقل ليس بالطرق الغرائبية التي سقط بها العديد من القادة الديكتاتوريين في سوريا على امتداد قرن من الزمن، حتى أن هدن الاستقرار السياسي تبقى نادرة أو متعذرة في كل مفاصل السياسة في سوريا، ومع ذلك يبقى نظام الأسد الديكتاتوري، الأكثر دموية ورعبا وفتكا في الشعب السوري، وفي المقابل فإن الديكتاتوريات السورية، لا تنتهي على أسِرَّة النهايات العادية، إذ أن كل الرؤساء ينتهون بالنزول القسري من عروشهم، وقد يهربون، ويختفون أويقتلون، لكن دائما على مسافة سحرية من الميتات العادية.. والأمر نفسه يسري على بقية الديكتاتوريات العربية، مع القليل من التباين الذي لا ينفي وحدة السياق والمآل والنهايات..
من صف المعارضة إلى الثورة
في سوريا تبدأ الثورات لكن قادتها يعيدون إنتاج الثورات السابقة.. ينتقلون من صف المعارضة إلى صف الثوار، كأن الثورات التي انتقلت منذ قرابة قرن في سوريا لم تنتهي بعد، أو على الأقل لم تكتمل، وما زالت جارية إلى حدود هذه الساعة.. وهي صيغة الحاجة للتغيير التي اختلطت فيها الديكتاتورية العسكرية، والديكتاتورية العفنة، وكوابيس الثورات الرثة، وأحلام ثورات المدن الفاضلة.. وأقدار الاشتراكيات الظالمة بكل ضروبها، والطغيان الدموي المريب، والفردانية السياسية المازوشية، والولاء للقوى الأجنبية، والخيانات الغريبة، والسياسات الضاربة في ميوعة الفساد والافساد، والاغتيالات باسم ثورات التصحيح، والخيانات النرجسية، وظلاميات الاديولوجيات الطائفية، والعصبية الدينية، والجهالات الدينية والسياسية.. والقومية الزائفة والبعثية الفاشية التي قدمت نفسها كبديل قومي عروبي إشتراكي لكل شيء، وانتهت إلى تحقيق ومراكمة لاشيء، سوى صور الديكتاتور الذي وظف كل مقدرات زيف دولة سوريا لمحاربة وقهر وإذلال الشعب السوري..
ولأن الثورات في سوريا لها مذاق خاص ليس هو مذاق التغيير السلس، أو الانتقال من طور القهر إلى بلد التجديد والتسامح، فإن كل من يعرف ثورات سوريا، (من 1946 تاريخ الاستقلال عن فرنسا، حكم سوريا 21 رئيسا، أغلبهم وصلوا إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، التي كانت تقدم نفسها كثورات، من الرئيس شكري القوتلي في 1943، إلى بشار الأسد)، يعرف أنها تقع في الوقت غير المتوقع، لكن أيضا سريعة الارتداد على نفسها، فتصبح الثورة العدو المثالي للثورة، ويصبح الثوار الأكثر محافظة ودفاعا عن قتل الثورة.. حتى أن ثوار المعارضة الحالية الذين انقلبوا على الديكتاتور بشار الأسد، بثورة يقولون أنها غير مسبوقة، هم أكثر من يخاف على مصير ثورتهم من أنفسهم أو من ثوار محتملين، أو من أحلاف وتكتلات قديمة أو جديدة. أو المرتبطة بالأيديولوجيا الدينية أو جهات الولاء والتسليح والتمويل.. حتى أنه في كل مفاصل الصراع السوري بين النظام والمعارضات، من المستحيل أن لا تجد من يسلح ويمول أطراف الصراع ويتتبع مراحل تقدمها ويبدي النصائح والاستشارات من عثراتها ونواقصها ووهج نجاحها وسقوط أحلامها، حتى أن سوريا الحالية قبل الثورة كانت أشبه برقعة الشطرنج، تحتلها ست ٌقوى أجنبية، على 447 موقع عسكري، إذ يتوفر حزب الله على 117 موقع عسكري، تركيا 114موقع عسكري، روسا 83 موقع عسكري إضافة إلى قاعدة حميميم الجوية وطرطوس البحرية، أربع قواعد عسكرية أمريكية فوق منطقة نفطية في شرق البلاد، تمول بها جيش الأكراد السوري..
ثورة لم تسقط من السماء
كل هذا ليس بالأمر الجديد على أطراف المعارضة السورية، فيما الجميع يلازمهم الخوف من سقوط أحلام الثورة بموت الثورة، لكن أيضا بولادة ما هو أشد من ديكتاتورية حزب البعث السوري.. لكن هناك من يبرر أهمية المتغير الجديد في قاموس الثورات السورية، إذ ان الثورة الحالية امتدت تراكماتها لثلاثة عشر عاما، وهي ثورة لم تقع بغتة ولا سقطت على حين غرة من السماء، أو على الأقل بالسرعة الغرائبية التي سقط بها العديد من الأنظمة العسكرية العربية، لكنها ثورة سارت وامتدت لجيل كامل.. وحققت معها تغييرات سياسية وفكرية جوهرية في وجوه وقناعات المعارضة، وكذا في مفاصل الشعب السوري المنقسم إلى طوائف وفرق وجماعات وأحزاب، والمتوحد حول هدف إحقاق الثورة ضد النظام الديكتاتوري البعثي.. لكن وبشكل لافت فإن هذه الثورة لن تسلم من مطبات التباين والاختلاف، والشكوى من قدر الدم الملتصق تاريخيا بالثورات السورية.. وإذا حدث شيء من هذا القبيل، فإنه لن يكون جديدا في سوريا.. فكل الثورات والردة عليها والانقلابات المتتالية في سوريا، أمر ثابت ومكرور. فبعد مضي أيام على سقوط نظام بشار الأسد، بدأت فلول بقايا التابعين لحزب البعث السوري الفاشي، يتحركون في اتجاه تنشيط حركية الخلافات والتطاحنات والصراعات بين أطراف الثورة السورية، مع تأكيدهم أن الحرب لم تبرد ضد المعارضة، وسيسيل دم كثير، وهي الملزمة والخاتمة التي تفضي بثبات الثأر والانتقام من الثوار..
الثورة لا تكتمل بسقوط الديكتاتور
وهذا لن يكون أيضا بالأمر الجديد، فالثورة لا تنتهي مع سقوط الديكتاتور، وقد تبدأ الحاجة لها بعد سقوط الديكتاتور، تشي غيفارا كتب في مذكراته، "حين يسقط الدكتاتور تستمر الثورة ضد أخطاء الثوار المرتدين.." ويقول السجل التاريخي للعديد من الثورات، أن الاكتفاء بإنجاح الثورة والسكن في أفراحها، يقتل الثورة.. فيما يقول ماو تسي تونغ، "إن إنجاح الثورة مجرد قنطرة توصل الثوار إلى ضفة الحفاظ على مكاسبها"، ففي هذه الضفة تسكن روح وأهداف الثورات، ودون الحفاظ عليها وصيانتها تتعفن الثورة، وقد توصل إلى إعادة إنتاج أنظمة أكثر عفنا وترديا من النظام الديكتاتوري السابق.. وأمامنا العديد من الثورات الفاشلة، التي أعادت انتاج أنظمة دموية ظالمة وأكثر فتكا بمقدرات شعوبها..
كما أن صيانة الثورة لها ثمن وأكلاف كبيرة، تبدأ بسقوط النزوعات الذاتية، والتخلي عن الاستئثار بمقدرات الثورة، وصيانة أهداف الثورة والاحتكام إلى القواسم المشتركة بين أطراف الثورة، والسعي المشترك لتبني البرنامج المرحلي الثوري، وصولا إلى تحقيق وإنجاز معالم دمقرطة الدولة، ودمقرطة القواسم السياسية المشتركة.. وهي أكلاف لا تتحقق بالحماس السياسي الزائد، ولا بالنزوعات الإقصائية بين أطراف الثورة، بل بالامتثال للعلاقات العقلانية والبراغماتية، والإيمان بروح أهداف خدمة الوطن..
ولم يحدث أبدا أن تمت ثورات بلا أكلاف وتضحيات كبيرة، وضحايا بلا عد ولا حساب، حتى أنه يندر أن تضع ثورة ما جرد حساباتها على صفحة بيضاء، بل إن حساب جميع الثورات ينتهي بدزينة من الخسائر، وأحيانا لا تتوقف الخسائر حتى بعد نجاح الثورة أو بداية ما بعد الثورة.. ولا تشد، الثورات العربية عن هذه القاعدة، فقد ألصقت بنفسها أكلاف دموية زائدة، حتى أن الثورة الليبية، وهي الثورة التي صنع الزعيم معمر القذافي أسبابها على مهمل وعلى امتداد أزيد من ثلاثة عقود، فكان مُوقدها وحطب نارها الذي أتت عليه في مشهد دراماتيكي أعدم فيه ببطىء ووحشية من قبل الثوار، أما الثورة المصرية فقد تمت بأغرب الوسائل، وقادها الجيش المصري بالروموت كونترول، محيكا وصانعا لاعتصاماتها وصراعاتها ومناوراتها، إلى أن تمكن منها وانقلب عليها وأجهز على من كانوا يوهمون أنفسهم أنها صنيعتهم سواء كانوا من الشباب أو من الأحزاب اليسارية أو الاخوان المسلمين.. فسقط مئات الشهداء على يد الجيش ورجال الأمن، فيما نجحت الثورة التونسية، بأقل الخسائر الدموية، لكن بكثير من الاعطاب السياسية، وانتجت في النهاية الديكتاتور قيس بن سعيد، الذي لا يختلف عن سابقه بن علي. أما الثورة السورية التي أسقطت الديكتاتور بشار الأسد، والتي اعتبرت من أشرس وأدمى الثورات، فقد امتدت طويلا، حتى أنه لم يسبق لنظام سياسي أن نكل بشعبه كما هو حال نظام البعث السوري، فيما يشبه الإبادة اليومية..
السباحة في أوقيانوس العنف
لكن عموما فإن الثورات العربية ومهما يكن من فرط دمويتها على يد الأنظمة التي كانت حاكمة أو التي ما زالت تحكم، فإن جانبا أساسيا من دمويتها ليس أكثر من الرد بالمثل ضد قوات النظام الحاكم.. وهذا ما يميزها عن باقي الثورات التي شهدتها العديد من الدول، وعن الأنظمة التي قادت شعوبها بديكتاتورية وعلى نحو دموي.. فقبلها بعقود خاضت الثورة البلشفية في أوقيانوس من الدم، وأجهزت على أزيد من مائة مليون نسمة على امتداد ثمانين عاما من عمرها، وهو رقم أورده الكاتب الفرنسي، ستيفان كورتوا الكاتب الشيوعي في مؤلفه"الكتاب الأسود"، وثورة ماو تسي تونغ الصينية التي أتت على ملايين الضحايا في أطول مسيرة حمراء دموية امتدت من شمال إلى جنوب الصين خلال عشرين سنة.. وتحررت فيتنام بثورة ضد الهيمنة الأمريكية أتت على مقتل ثلاثة مليون فيتنامي، وتمت الثورة الخمينية، بمقتل آلاف الإيرانيين، وقَتل أزيد من مائة عالم ومفكر إيراني وإعدام مائتى وخمسون من كبار الجنرالات والضباط العسكريين.. ومباشرة بعد تحرير فرنسا من النازية، أعدم مئات الفرنسيين الذين كانوا يشتغلون مع حكومة فيشي الموالية للنازية، وقتل الثوار الفرنسيين أزيد من ثلاثين ألف فرنسي بتهم التواطؤ مع الاحتلال الألماني، ولم تنج العاهرات وأصحاب المواخير الذين كانوا يسمحون باستقبال الجنود الألمان.. وقبل ذلك، سارت الثورة الفرنسية في أكثر الطرق دموية، فقد أعدمت وبدون محاكمة رؤوس الطبقة الأرستقراطية، ولم يسلم من القتل حتى العلماء، فقد قطعت المقصلة رؤوس علماء ومفكرين كبار، مثل لافوازييه أبو الكيمياء الحديثة، والمفكر كوندورسيه، وسالت دماء الأمريكيين، في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وبآلاف الضحايا، والحرب الأهلية الاسبانية بين الفرانكويين والجمهوريين، التي ما زالت أسرارها تقض مضجع اسبانيا حتى الآن.. والانقلاب على الثورة الشيلية، الذي أتى على آلاف الديمقراطيين والمناضلين في الشيلي، إضافة إلى عشرات الثورات في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، التي كانت فيها حصة الدم أكبر كثيرا من حجم الأفكار التي أتت بها..
فلم يحدث أبدا أن خلت ثورة من الضحايا وسفك الدم، كما لم تكن الثورات في يوم من الأيام بيضاء، أو بلون البياض، الذي هو سمة للخلو والفراغ وليس عنوانا لبصم وترميز ثورة من الثورات، حتى بالمقاييس التي شرعت وانتصرت لأفكار المهاتما غاندي، أبو الثورة الهندية، فقد تمكن من تحرير الهند من الاستعمار الانجليزي بأعداد لا تذكر من القتلى الهنود، بل لم ينج هو نفسه من الموت، فقد أفرغ متطرف هندوسي مسدسه في صدره، مباشرة بعد استقلال الهند، وكأنه يريد أن ينتزع منه دينا ضافيا، ضدا على مقاومته للاستعمار..
وخلال محاكمة غزنبرغ لقادة وزعماء النازية، التي شارك فيها عشرات المفكرين والكتاب، ألقى ألبير كامي الكاتب الوجودي الفرنسي، كلمة في جلسة من جلسات المحاكمة، قال فيها "... لم يكن ممكنا القضاء على النازية بالحوار، فهي لم تقدم نفسها كطرف يقبل بذلك، كما لم يكن ممكنا دفعها للتخلي عن تدمير الشعوب الأوروبية، فقد أتت من أجل احتواء كل الشعوب، ولم يكن ممكنا أيضا إضعافها دون مقاتلتها، بل كنا مضطرين لمقاتلتها لأنها سبقت وأعلنت القتل ضد الجميع..".
وعلى هذا النحو سارت معظم الثورات، إذ تجد نفسها مسبوقة بنوايا واستعدادات مقاتلة أعداءها، ولو بالقتل اعتراضا على مقتلها، ولو بأضعف الوسائل، وبأسلم الأهداف، وبمبررات الدفاع عن النفس، وإن كانت الثورة السورية الحالية هي الثورة الأصعب، في بلد يؤثثه الانقسام والتشرذم والعصبيات السياسية، ونوايا الانفصال، وتعدد الأطراف الخارجية وتجاذب النوايا والمصالح الخارجية، والغارات الجوية الإسرائيلية التي وصلت إلى 350 غارة جوية خلال ثلاثة أيام، وقضت على مقدرات سلاح الجيش السوري بالكامل..