احتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية الاثنين 16 دجنبر 2024 الندوة الحادية عشرة للهجرة في موضوع: "الذاكرة والهجرة في العالم المعاصر: البناء والانتقال بين الأجيال"، بمناسبة اليوم العالمي للمهاجرين الذي يصادف 18 دجنبر من كل عام.
الندوة سلطت الضوء على تاريخ الهجرة في زمن التحولات المتسارعة من أجل التفكير في مقاربات موضوعية مهتمة بالتاريخ والذاكرة كقاطرة للعبور إلى بناء التراث الحضاري والفكري السياسي والثقافي للمهاجرين وانتقاله بين الأجيال، وحفظه وتوثيقه وتدريسه، والتشجيع على إيصاله لأوسع الناس عبر المسرح والسينما والمعارض الفنية، وعبر الشعر والقصة والرواية، وصيانته في المتاحف المختصة لهذا النوع من الذاكرة.
كما استحضرت اهتمام العديد من الدراسات حول الذاكرة والهجرة، والتي توسعت لتشمل مجموعة من تخصصات ومجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، بالإضافة إلى أعمال المتخصصين في علم المتاحف، والأرشفة، والوسائط السمعية البصرية، وأنشطة جمعيات ومنظمات المجتمع المدني.
افتتحت الندوة بكلمة ترحيبية لمنسق الندوة المصطفى المريزق (أستاذ باحث في الهجرة بجامعة مولاي إسماعيل)، ذكر فيها بكل الندوات السابقة (منذ 2011-2012)، وبدور الراحل نور الذين هرامي الذي كان من بين ثلة من الأساتذة الباحثين من داخل المغرب ومن خارجه، الذين أرسوا دعائم هذه الدينامية برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس.
خالد مونة الباحث في الانثربولوجيا، قدم عرضا نظريا حول علاقة الذاكرة بالهجرة، ركز فيه على المبادرات الرامية إلى تعزيز هذه العلاقة منذ نهاية الثمانينات، لا سيما من خلال عمل الباحثين الذين سعوا إلى الحفاظ على الأرشيف والشهادات، مشيرا إلى ظهور عدد من الحركات التي تركز على التذكر، حيث كل شيء يصبح ذكرى، ولا يمكن أن تكون أعمال الذكرى إلا مشروعة ونبيلة، وأن الذاكرة مصطلح شامل، يغطي عناصر غير متجانسة للغاية: ذكريات ووقائع تاريخية وعمليات وتمثيلات وتراث وما إلى ذلك، ويشير أحيانًا إلى ما يسمى” ذاكرة الماضي“.
المداخلة الثانية، كانت للباحث والحقوقي محمد الشارف، التي ألقيت نيابة عنه من طرف الباحث نورالدين البحري (ميسر الجلسة)، ذكر من خلالها أن الهجرة قضية مستقبلية، وهي أيضًا أحد المكونات المهمة في بناء التنمية والديمقراطية، وعامل أساسي لتقريب الشعوب، وإثراء التبادل الثقافي، وتعزيز حقوق الإنسان، في سياق عالمي أصبحت فيه إغلاق الحدود القاعدة العامة، مما يؤدي إلى تداعيات خطيرة على المهاجرين، تتمثل في زيادة الرقابة، وتقييد حرية التنقل عند الحدود، والتجريم، والحظر وأحيانًا الرفض، بل وحتى الوصم. بالإضافة إلى فرض أشكال من الإقامة الجبرية على العديد من الراغبين في الهجرة. وهو مايستدعي العمل على تعزيز حقوق المهاجرين، وحث الدول المترددة أو المتحفظة أو الرافضة على التصديق على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم. كما يجب مضاعفة الجهود لتنفيذ جميع النقاط الـ23 الواردة في الميثاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية المنبثق عن مراكش. كما يجب على الدول أن تلتزم بدمج هذين الإطارين في سياساتها بشكل فعال يعزز كفاءة حقوق الإنسان وتقدمها، وذلك من خلال تعاون مستدام وطويل الأمد.
بعد ذلك تدخلت فاطمة أيت بالمدني الخبيرة والباحثة في مجال الهجرة النسائية بجامعة محمد الخامس بالرباط، والتي ركزت في مداخلتها على الاستعمار وسياسة الهجرة، حيث انطلقت من سؤال مركزي : كيف يؤثر الإرث الاستعماري للمغرب وأفريقيا على طريقة تفاعل المغاربة مع النساء المهاجرات من جنوب الصحراء الكبرى في المغرب وبالتالي التأثير على عملية اندماجهن في المجتمع المغربي ؟
للإجابة عن هذا السؤال، وفي إطار استمرار التفكير حول مسألة العنصرية، استعانت بمفهوم الاستعمارية الذي طوره أنيبال كويجانو"، كما ناقشت نتائج البحث الميداني الذي أجري حول اندماج المهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء في المغرب خلال الفترة ما بين 2018 و2022، خصوصا وبشكل أكثر تحديدًا، تأثير التصورات السلبية للمغاربة على التمييز المرتبط باندماجهن في المجال الاجتماعي والاقتصادي.
ميمون عزيزة، وهو أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، قدم عرضا حول المغرب، أرض اللجوء. معتبرا أن المغرب لطالما جسّد أرض اللجوء على أرض الواقع، ويشهد تنوع السكان الذين وجدوا ملاذاً على أراضيه على دوره الفريد في هذا الاتجاه. فاليهود الذين طُردوا من إسبانيا عام 1492، على سبيل المثال، وجدوا ملاذًا في المغرب، حيث أثروا على النسيج الاجتماعي والثقافي للبلاد. وفي وقت لاحق، تم الترحيب أيضاً بالموريسكيين، وهم المسلمون الذين طُردوا من إسبانيا في القرن السابع عشر، وتم دمجهم في مناطق مختلفة من المغرب، مما ساهم في التنمية الاقتصادية والفكرية للمجتمع. كما فتح المغرب في القرن التاسع عشر أبوابه للجزائريين الفارين من تداعيات الاستعمار الفرنسي، مما عزز أواصر التضامن بين الشعبين. وفي الأربعينيات من القرن العشرين، وخلال الحرب الأهلية الإسبانية وفي ظل نظام فرانكو، كان المغرب ملجأ للمنفيين الأسبان، لكي يؤكد مرة أخرى على دور المغرب كملاذ للمضطهدين.
مداخلة الحقوقي محمد لركو، رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان سابقا، تطرقت إلى العوامل التي أدت إلى طغيان الذاكرة في العصر الحاضر، حيث أصبحت مركزية ومعبئة وساعية إلى خدمة الهويات التي استبعدت ثقافاتها الجماعية ، كما تطرق بشكل مستفيض للتعريف بالذاكرة بشكل عام والتاريخ والذاكرة الجماعية ونقط الالتقاء و الاختلاف بينها، ثم ألقى الضوء على الذاكرة التي تهم الهجرة ونتائجها، خاتما مداخلتة بالدعوة إلى ضرورة تبني المقاربة الحقوقية في التطرق للذاكرة.
أما غزلان العلوي، باحثة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس (شعبة الإنجليزية)، فقاربت الموضوع انطلاقا من دراسة لسانية لكيفية تداول وسائل الإعلام لظاهرة الهجرة غير النظامية، حيث أظهر تحليل الخطاب النقدي الذي يعتمد على فحص البنية المساندة و ربطها بالسياقات الخارجية للمقالات الإخبارية، أنه بالرغم من التمثيل الإنساني للمهاجرين غير النظاميين في المغرب، إلا أن هناك خطاب مهيمن يتحدث اكتر عن رأي صناع القرار بدل إعطاء صوت و مساحة لهؤلاء المهاجرين للتحدث عن أنفسهم كأشخاص ذو تجارب إنسانية.
المداخلة الأخيرة، كانت للمصطفى المريزق، أستاذ باحث في الهجرة، تناولت تاريخ نضالات العمال المغاربة في فرنسا، حيث توقف عند الأهمية التي اكتستها الحركات السياسية والجمعوية للمغاربة منذ العشرينات من القرن الماضي، ونضالها من أجل الاستقلال، وما شكلته هذه النضالات من ظاهرة نموذجية وديناميات اجتماعية وثقافية وسياسية وحقوقية، صاحبت المغاربة بفرنسا، في ظرفيات تاريخية مختلفة.
ومن جهة أخرى، ركزت هذه المداخلة على إسهامات الجيل الثاني والثالث، وانخراطه في نضالات مريرة من أجل الديمقراطية في البلد الأم، والحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية في بلد المهجر، في ظل أوضاع معقدة، معتبرا أن تاريخ هذه المحطات المشرقة تشكل اليوم ذاكرة تستحق الإنصاف والمصالحة.
وفي الأخير، وقبل تلاوة الكلمة الختامية من طرف الباحثة مليكة بنراضي، من جامعة محمد الخامس بالرباط، تم تكريم الأستاذ الباحث محمد الخشاني ،أستاذ بجامعة محمد الخامس ورئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث حول الهجرة، ومنحه جائزة " الراحل نور الدين هرامي للبحث والدرلسات في ميدان الهجرة".