تحليل

الصحراء المغربية .. الركود الأممي والدينامية الدولية

محمد بنمبارك
قَدَّم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، أوائل غشت 2024 تقريرا للدورة 79 للجمعية العامة بناء على طلبها دجنبر2023، مَثَّل حصيلة سنة (1/7/2023 ــــــــ 30/6/2024) من المستجدات السياسية والتقنية والميدانية المرتبطة بنزاع الصحراء.

أعرب السيد غوتيريس في تقريره عن "قلقه العميق إزاء التدهور المستمر للأوضاع بالصحراء الغربية"، معتبرا "استمرار الاعمال العدائية وغياب وقف لإطلاق النار بين المغرب وجبهة البوليساريو يمثلان انتكاسة للحل سياسي لهذا النزاع طويل الأمد" لكنه مع ذلك أصَرَّ على دعوة " الأطراف المعنية إلى التعامل مع المسار السياسي بعقل منفتح وبدون شروط مسبقة"، في إشارة إيجابية واضحة على أن الحل السياسي المنطقي هو السبيل الواقعي لوضع حد للصراع.

تقرير السيد غوتيريس وإن تحلى بالواقعية والاعراب عن خيبة الأمل والمُضِي في الحفاظ على الوضع القائم باستخدام نفس المفردات المتداولة داخل الأمم المتحدة، فإنه أَهْمَل معطيات أخرى مرتبطة بتطورات ملف الصحراء، بالشكل الذي جعل التقرير مطبوع بالحيادية والغموض والعودة إلى حدود المربع الأول للقضية، والاكتفاء باعتبار مواقف الأطراف المتنازعة تقف على قدم المساواة في صف واحد، في مشهد ملتبس ينقلنا مرة أخرى الى سيناريو الانتظار والركون.

ليس بالقليل ما جرى ما بين يوليو 2023 ويونيه 2024، فقد كانت سنة حافلة بالمتغيرات المؤثرة البالغة الأهمية غابت عن التقرير الأممي، نستعرضها من خلال أداء أطراف النزاع:

أولا ــــــــ الجزائر:

1- استمرار رفض إجراء أي إحصاء لساكنة تندوف والتدقيق في هوياتهم تحت إشراف دولي،

2- التَهَرَّب من المشاركة في الموائد المستديرة باعتبارها الصيغة الوحيدة المؤطرة للمفاوضات برعاية الأمم المتحدة طبقا لقرار مجلس الأمن رقم: 2654، للتوصل إلى حل سياسي واقعي عملي توافقي، حجتها في ذلك أنها ليست طرفا في النزاع، في موقف فاضح يبرز عدم القُدرة على التحلي بالشجاعة والجرأة لتعترف بأنها طرف أساسي في النزاع، والجلوس إلى طاولة الحوار مع المغاربة أصحاب القضية،

3- تَحَمَّل نظام الجزائر عِبء قضية الصحراء واعتمدها في صلب سياسته ودبلوماسيته وتحركاته العسكرية وسباق تسلحه وتسخير كل طاقاته المادية بشكل تجاوز كل الحدود، لِيَدَّعي في الأخير أنه غير معني بالقضية،

4- التشجيع والدعم العسكري لعناصر البوليساريو لشن اعتداءاتها على الأراضي المغربية، المصحوبة بالصخب الإعلامي الجزائري عن "ضراوة المعارك" الوهمية على الحدود.

5- بات نزاع الصحراء يشكل قضية الجزائر الأولى من حيث التعبئة والتحركات والمساعي إقليميا وقاريا ودوليا،

6- قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب وأغلقت الحدود برا وجوا وبحرا، وأوقفت خط أنبوب الغاز، نازَعَت المغرب في ترابه وحدوده، كما وجهت له سلسلة لا حصر لها من الاتهامات بالتجسس والمخدرات والتهريب وإشعال الحرائق ... دون التمكن من تقديم أدلة، وصفت المغرب بالبلد " العدو، المحتل، المعتدي، المهدد للأمن، المخرب......."، أطلقت حملة إعلامية شرسة واسعة النطاق مغرضة ضد المغاربة حُكْما وشعبا، فضلا عن السعي لخلق نزاعات للمغرب مع عدة دول (نموذج اسبانيا، تونس، اليابان، مصر...)، انزعجت من مساعي المغرب وجهوده للمساهمة إلى جانب المنتظم الدولي في حل الأزمة الليبية، والقائمة طويلة،

7- أطروحة النظام الجزائري لم تعُد تتوافق أو تنسجم مع نظرة الأمم المتحدة ومقررات مجلس الأمن الدولي، الذي غَيَّر نظرته نحو الحل السياسي الواقعي كطرح بديل ووحيد، بعدما تجاوز مرحلة الاستفتاء التي اسْتَحال على "المينورسو" تنظيمه منذ عام 1991. وتأكد هذا الاختيار بعدما غابت الإشارة إلى "الاستفتاء" عن قرارات مجلس الأمن الدولي منذ سنة 2001،

8- تستمر الجزائر في تعزيز قواتها ومعداتها العسكرية على الحدود المغربية، وتحركات قادتها لا تتوقف، وكأنها تستعد لحرب محتملة، بشكل لا يبعث على الاطمئنان ويهدد الأمن والاستقرار بالمنطقة.

كلها مواقف كانت جديرة بالحضور ضمن التقرير الأممي، باعتبار أن نظام الجزائر عمل بشكل كبير على عرقلة منهاج عمل الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي. وحين تحدث السيد غوتيريس عن "انتكاسة الحل السياسي" وأصَرَّ على "دعوة أطراف النزاع للتعامل مع المسار السياسي"، كان من المفترض أن يضع الطرف المعرقل أمام مسؤولياته الدولية. 

ثانيا ــــــــ بوليساريو:

1- بعد أن وضع المغرب حدا، نوفمبر 2020، لشغب عناصر الانفصاليين على معبر "الكركرات" مع موريتانيا، أعلنت البوليساريو نهاية التزامها بقرار وقف إطلاق النار، في خطوة تصعيدية لاستهداف التراب الوطني، ومحاولة السعي إلى فرض فراغ أمني لتمديد الصراع وإشعال نار الفتنة، وإثارة صخب إعلامي على معارك غير مؤثرة على الوضع.

2- نفذت عناصر بوليساريو عدة عمليات هجومية على الجدار الفاصل تصدت لها دفاعا القوات المسلحة الملكية دون عناء،.

3- يدرك العالم أن كل الأعمال العدائية للبوليساريو على حدود المغرب تقف وراءها الجزائر بالمال والسلاح والتخطيط.

كان من البديهي أيضا، أن يضع السيد غوتيريس جبهة البوليساريو صراحة أمام مسؤولياتها في التَّحَلُل من قرار وقف إطلاق بشكل منفرد وتداعياته، إلى جانب الجزائر على استمرار تشجيعها مسار الحرب على خيار السلم والحوار.

ثالثا ــــــــ موريتانيا:

يتميز الموقف الموريتاني بالاتزان وأخذ مسافة من أطراف الصراع، والتمسك بسياسة الحياد المُريح، القائم على التوازن وعدم الاندفاع في هذا الاتجاه أو ذاك، وقد ظلت نواكشوط منسجمة مع موقفها الثابت الذي تعبر عنه في الدورات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، المؤكد على: "دعم مساعي الامين العام للأمم المتحدة وممثله الخاص من أجل الوصول الى حل نهائي شامل وعادل يحظى بموافقة الطرفين، بما يعزز الأن والسلم في المنطقة ويفضي الى بناء اتحاد مغرب عربي زاهر ومتقدم خدمة لتطلعت شعوبه المشروعة".

رابعا ـــــــ المـــــغــــرب:

تمكن دبلوماسيا من تحقيق نقاط فوز هامة كانت جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار في تقرير السيد الأمين العام للأمم المتحدة، لكونها مؤثرة فاعلة في مسار التسوية:

1- تستمر المبادرة المغربية للحكم الذاتي بالصحراء في التوسع، بعد أن حظيت بدعم قوي من أكثر من 107 الدول، باعتبارها الحل التوافقي العملي والواقعي في غياب أية مقترحات بديلة على الطاولة ومنذ سنوات،

2- إقدام عدد من الدول الإفريقية والعربية ومن أمريكا الجنوبية آخرها تشاد، على افتتاح قنصليات لها بالصحراء المغربية، وقد بلغ عددها لحد الآن 30 قنصلية منها 17 بالداخلة والبقية بالعيون، مما يساهم في إضفاء شرعية دولية على الموقف المغربي بطريقة هادئة.

3- يتواصل مسلسل صدور المواقف الداعمة لسيادة المغرب على صحرائه، من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، اسبانيا، ألمانيا، البرتغال، هولندا، فنلندا وأخيرا وليس آخرا فرنسا، فضلا عن العديد من دول شرق أوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والكاراييب...

كل هذه المتغيرات الدولية المؤثرة بشكل مباشر على جوهر قضية الصحراء، كان منتظرا أن تجد طريقها ـــــــ من باب الإحاطة بالعلم ــــــــــ إلى التقرير الأممي، لكن السيد غوتيريس المعروف بدبلوماسيته الهادئة الحكيمة وحنكته، يبدو أنه اكتفى بِحَثِّ أطراف النزاع على التقيد بالمسار الأممي كحل وسط دون تحميل أي طرف مسؤولية عرقلته، ليترك الصلاحية لكل طرف تكييف التقرير حسب قراءته الخاصة، ويظل المشكل يُراوٍح مكانه.

من المعلوم أن السيد غوتيريس سعى منذ مدة إلى بناء تدابير الثقة بين أطراف النزاع والمراهنة على حصول تقارب مغربي جزائري، كفيل بالمساعدة على فتح آفاق للحل، لكن الأجواء المخيبة للآمال التي خلقتها الجزائر في علاقتها مع المغرب، حالت دون المضي في هذا الطريق.

فإذا كان الحياد سيد الموقف الموريتاني، ولبوليساريو عاجزة عن التأثير في الموقف المغربي سياسيا وعسكريا وترابيا وشعبيا، فلا يظل أمام الأمم المتحدة سوى أن تضع أصبعها على مكمن الخلل في الصراع، الذي يتمثل في الطرفين الأساسيين المغرب والجزائر، وهذه حقيقة يقر بها الجميع، لكن نظام الجزائر يرفضها ويختار سياسة المُمانَـعة والتَّمَلُّص، ويُصِّر الإبقاء على حالة الاحتقان والركود العقيم، طالما ذلك يُزْعِج المغرب ويُعرقِل مسيرته التنموية وطموحاته الاقليمية والإفريقية والدولية.

لكن الذي يغيب عن أذهان حكام الجزائر، أن المغرب يراهن على عامل الزمن بالسرعة القصوى أو إطالة الأمد طالما الصحراء في مغربها، فالدينامية التي يشهدها ملف الصحراء دوليا والتي تمضي بوتيرة متنامية، ستدفع مع الوقت إلى تحول معالجة الأمم المتحدة لقضية الصحراء من تصفية استعمار إلى استكمال وحدة ترابية، وذلك عن طريق تآكل وتفتيت الأطروحة الجزائرية وهو أمر ليس بالبعيد، من شأنه أن يقلب المعادلة الأممية رأسا على عقب. 

كلها عوامل كفيلة بِمُضِيِّ ملف الصحراء المغربية بشكل براغماتي نحو الحل، لا سيما بعد تغير المناخ الدولي الذي لم يتمكن حكام الجزائر بعْدُ من استيعابه، فالمنطقة خرجت من إطار التنافس الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وتغيرت استراتيجيات الصراعات، وانْهار زمن الدعم الشيوعي للبوليساريو والجزائر، بالشكل الذي جعل ميزان القوى يميل بشكل مريح لصالح المغرب، لاسيما بعد مرونة وحيادية الموقفين الروسي والصيني داخل مجلس الامن، وتراجع اهتمامهما الاستراتيجي بقضية الصحراء، فضلا عن دخول فرنسا واسبانيا المؤثر والوازن إلى جانب المغرب، وبالتالي ستظل الأطروحة الجزائرية في المستنقع خارج السياق الدولي ودون أفق.