رأي

حسناء أبو زيد: الحالة المغربية في قطر.. ماذا بعد؟

لم أعزم، لكنه الله قضى، ووجدتني في ملعب "البيت "بقطر، تحضنني خيمة دافئة كخيامنا في البوادي، مقصبة الحواشي، بديعة الخطوط، كريمة الوفادة، أمنت لي بأحدث التكنولوجيات رحلة إلى بداوتي الكامنة في داخل دواخلي، فأخذتني أخاديد الحياكة إلى عصب الحكاية..

فما الحكاية؟

العالم في خيمة قطر والمغرب فوق ركحها في عقر دار الأربعة الكبار ينازل من أجل أكثر من مباراة رياضية.. ينازل من أجل الحق في الحلم وفي الأمل.. والحق في الاعتبار.. 

لم أعزم لكنه الله قضى، فأنا لا أعرف كيف أتمتع بالنزالات التي يخوضها المنتخب الوطني، أضج في صراع ضد الزمن والتخمينات وجمل المعلقين، أتسمر أمام التلفاز لأتجرع طوال المباريات نقيع الترقب والوجل والتوجس، أتحرق بسذاجة عنيدة لفوزٍ سريع وحسم مبكرٍ، لا يسعفني فيه زادي الكروي الزهيد. 

إلا أنني يومها في حضن "البيت" بدوحة قطر، لم أجدني في ملعب مباراة كرة قدم يواجه فيها منتخبنا الوطني حامل كأس آخر مونديال، بل وجدتني فيما أسميه الحالة المغربية في المونديال، ما يشبه مرافعة وطنية آسرة على رؤوس الأشهاد من الأمم، تقودها الجماهير في المدرجات ووراء الشاشات والمنتخب على أرض الملعب، يتصدى فيها المغاربة - في المدرجات وفوق أرض الملعب - بإصرار لمؤشرات الواقع المغربي فتسجل أهدافا مدروسة في مرمى أطروحة تسليع الاستحقاق والسياسة والوطنية والانتخابات والأحزاب والمسؤوليات، رأيتها ذات الجموع التي طالما تخلفت عن صناديق الاقتراع وعن اللقاءات التأطيرية والجماهيرية، السياسية والأكاديمية والجمعوية والنقابية والثقافية وعن كافة أشكال التعبير والفعل المواطن المتداولة، تتوافد تلقائيا، بالآلاف إلى موعد اقتراع الحسم بين أطروحة الانطلاق إلى مغرب الديمقراطية الشعبية، وأطروحة ديمقراطية إقصائية في مغرب التردد. 

لقد استفزت الحالة المغربية في مونديال قطر أسئلة قديمة / متجددة تدور أساسا حول سؤال الاندماج والانتماء.

فالاندماج لم يبني انتماء بالنسبة لمغاربة العالم في بلدان المهجر، و الانتماء في بلادنا لم يخلق اندماجاً لكافة أبنائنا في دورة التنمية والأمن والرخاء والعدالة الاجتماعية في وطنهم.

لقد طرحت الحالة المغربية في قطر ضرورة تغيير الغرب زاوية تناول منظريه ومفكريه لسؤال / أزمة الإندماج والانتماء، وأثبتت أن سياقات طرحه لا ترتبط فقط بحالات الإخفاق، بل بالنجاحات والانتصارات أيضا، فبعد أن ظل النقاش لعقود ينطلق من أزمات متعاقبة عنوانها، الإجرام، الإرهاب، التعصب الديني والإثني، مؤشرات اللامدنية من تخريب وشغب وإدمان وهدر مدرسي وغيرها، سينجح المغاربة من قلب قطر في دفع العقل الغربي أو ماكينات توجيه السياسات الثقافية والأمنية وغيرها إلى التفكير في تجديد أسلوب طرح الإشكالية والعمل من جديد، إذ سينطلق النقاش حول سؤال /أزمة الانتماء على بلاتوهات الإعلام ومطابخه هذه المرة من حالة نجاح متعدد الأبعاد، قيميا، كرويا وثقافيا وعلى رؤوس الأشهاد عالميا. 

لقد ركزوا رغم كل المتغيرات الصارخة على أطروحة واحدة تقوم على ربط اختيار اللاعبين المغاربة حمل قميص بلدان آبائهم وأمهاتهم وفق حركية شمال جنوب، ونازلة اختيار مواطنين بلجيكيين وفرنسيين من أصول مغربية تشجيع المنتخب المغربي، بفشل سياسة الإدماج ، رغم أن رسائل التميز المغربي في قطر تفصح عن مدخلات مختلفة لفهم إشكاليتي الإندماج والإنتماء، فجل اللاعبين الحاملين لجنسيات أوروبية مندمجون بشكل ناجح واضح في البنيات المجتمعية التي ترعرعوا فيها في القارة العجوز، وهو ما تعكسه ثقافتهم، لغتهم، أسلوبهم، تفاعلاتهم، ردود أفعالهم، وأسلوب تدينهم، ونجاحاتهم في النوادي التي ينتمون إليها، وفي الأوساط الاجتماعية والثقافية التي يعيشون فيها، لكن اندماجهم الناجح لم يبني انتماء، ولم يجعلهم يلمسون في المنظومات الأوروبية وطنا يركن إليه القلب قبل العقل، كما قالها اللاعب الحكاية حكيم زياش، فانتقوا من خارج الثقافة الأوروبية ما رتق ثوب الروح، و أنار دروب القلب وبلل غربة الفؤاد.

لم يعتد محترفو التوجيه الإعلامي والتكييف الفكري في الغرب تفكيك حالات نجاح أبناء الجاليات المغاربية من خارج باريدكمات تربط الاندماج بالمحاكاة الميكانيكية لخصائص المنظومات المجتمعية الأوروبية، لم يقبلوا ما طرحه بعض المنظرين وبعض رجال ونساء السياسة حول التكامل والتلاقح والتطور الاندماجي الثنائي الاتجاه ورجحوا منهجية الاستنساخ بالتذويب القسري، تقزم الكون في كون غرب أوروبا.

إن رسالة الحالة المغربية في قطر رجحت بشكل جلي كفة الاندماج بالتلاقح والتكامل والتطور التفاعلي الثنائي الاتجاه.. فماهي ياترى رسائل الحالة المغربية في قطر إلى الداخل المغربي؟

لا أريد أن أخلط شراب العسل بنقيع الحنظل في نخب النصر..

إلا أنني غرقت مثل الكثيرين والكثيرات في حالة من الإنكار التلقائي، هل كنا نحن؟ نعم.. نعم.. فهذا علمنا وهذا نشيدنا الوطني، وهاته ألوان قميصنا، وأسماؤنا.. ملامحنا.. سكناتنا وحركاتنا.. ولغتنا وتعبيراتنا، وهذه انتفاضة قلوبنا على ايقاع الجهد المتصفد من احتراقهم، وهي ذاتها ملامح لاعبينا التي تطابق تقاسيم أبناء أحياءنا، وحاراتنا، مدارسنا وجامعاتنا والدروب الهامشية التي تبلع اليافعين والشباب في غفلة من العدالة والمساواة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، نفسها ملامح الوجوه قبل أن تستوطنها الهزائم النفسية والقيمية والاجتماعية والسياسية، وجوههم هاته.. لا تختلف في شيء عن وجوه أبنائنا الذين تودعهم سياسات العجز قوارب الاغتراب النفسي والقيمي قبل أن تلقي بهم في قوارب المجهول، و ذاتها التي تتمزق في صمت على حواشي الحياة، هي نفسها التي تنهشها البطالة والأمية وانحسار معنى الأمن تحت سقف الوطن، وهن ذاتهن أمهات الأبطال، تُطابق تقاسيمهن ملامح الأمهات قبل أن تحفرها أخاديد الخوف من المجهول المتربص في السياسات اللاجتماعية، في الاختيارات السياسية والاقتصادية والتعليمية المترددة، وفي النفوق الحزبي والمدني، كما حملتها إلى العالم مظلمة جماهير فريق الرجاء البيضاوي "في بلادي ضلموني" فهل صدحت جماهير ملعب البيت القطري، "في بلاد الغير نصفوني"، بعد أن نجحت الإرادة الأوروبية في إنصاف المواهب وتوفق صناع القرار في بلدان المهجر في إبداع مولدات التفوق وميكانيزمات الاستحقاق والجدارة وتقدير المجتهدين والمثابرين، ربما لهذا سيكون من المفيد محاولة تفكيك رسائل ملحمة الحالة المغربية في قطر من داخل الحالة التي عكستها مظلمة جمهور الرجاء البيضاوي "في بلادي ضلموني".

كأيقونة تأوهات مدرجات الملاعب المغربية، والتي جابت العالم وغدت شعاراً ملتهبا للكسور الجماعية والشروخ والخيبات السياسية والاجتماعية لدى الشباب، فلماذا ياترى هذه المقاربة ، وأين تتقاطع الحالتان؟ 

تتقاطع الحالتان فيما أرى على مستويات عدة تتباين أهميتها ورمزيتها، لعل أبرزها: دور التركيبة التفاعلية التي تمثلها ثنائية المشروع والجمهور / الشعب في خلق إرادة الإبداع الجماعي، فالأنين الذي جرح حناجر جماهير الملاعب الوطنية هو حشرجة جماعية صهرت في صرخة ألم وأمل مشروع التغيير الخلاص في مستوياته الاجتماعية والسياسية بفاعليه الحقيقيين، كما أن معارك المنتخب الوطني في سبع مباريات عصيبة هي نداء خاشع مثقل بالرسائل الأخلاقية والاختيارات القيمية الناظمة يدعو إلى مغرب الديمقراطية التمثيلية الشعبية الحقة، التي لا تعثرها صناديق مدجنة كاتمة للأصوات وللتعبيرات وللآمال. 

لقد نقلت الحالة المغربية الكروية في قطر إلى العالم شخصيتنا الملفوفة في تناقضاتنا، لقد أطلعنا العالم عبر الزئير والأنين على المفارقات الممتنعة، على أحد أبواب الانطلاقة المترددة، على جزء من الأحلام الجماعية المحتجزة، لقد حاكمنا أمام شعوب العالم ترددنا في حسم الانطلاق نحو التقدم الناجع والشامل، وربط المسؤولية بالاستحقاق والتمثيلية بالتعاقد الشفاف الملزم، لقد أشهدنا العالم أن الكساد السياسي في بلدنا لا يعكس وعينا السياسي، وأن تعثر وتيرة تقدمنا لا تعكس قدراتنا و إرادتنا، وأن الانفلات القيمي الذي يستشري بيننا ليس اختيارنا ولا قرارنا، أن أعطاب مجتمعنا ليست قدراً، وأننا حينما نريد.. نقدر، يجب أن نقدر… 

فهل يمكن أن نستلهم أنموذجا فعالاً للديمقراطية التمثيلية يُحاكي نموذج "ديمقراطية الملاعب "، هذا الشكل الذي يقوم على التعاقد الواضح الشفاف بين الجمهور / الشعب واللاعبين/ الفاعلين والمكاتب المسيرة /الحاكمين، تُحدد فيه تعاريف واضحة للمصلحة العامة، للأهداف / المشاريع للفشل وللنجاح وللمصالح العليا وللمسؤوليات، للتقدم والتنمية والانتماء والتعاقد وشروطاً ملزمة للانتقاء والاعفاء وللمحاسبة وللجزاء، بإيجاز وثيقة تعاقدية ناطقة، سلسة ملزمة. 

وهل يمكن أن نأمل في انتصارات أخرى مستحقة ديمقراطية، سياسية واجتماعية وتنموية بدون مشروع جامع وفي غياب الجماهير، هل يمكن أن نبوثق حاجتنا إلى التقدم والإنجاز في غياب المشروع والتصور والارادة والجمهور، وهل يستقيم أن نؤول إلى أنموذج "ديمقراطية إقصائية" تحركها أوليغارشية متنفذة. 

غادرت خيمة البيت في قطر، مأخوذة بخيمة الوطن التي ترنو إليها جماهير المدرجات والشاشات في المنازل والشوارع، غير آبهة بالهدفين الفرنسيين في المرمى المغربي، أهيم في تفاصيل الممكن الذي يلوح في أفق مغرب مابعد المونديال، أتلمس ملامح الوعد الذي سطره الفريق الوطني بمداد الرجاء، أتلمس الخشوع الذي غشى وجوه الجماهير، وأغرق في ذات السؤال والرجاء: هل سنراهم غداً بذات الإصرار والوطنية يحجون إلى مواعيد الاصلاح السياسي والثقافي والانتخابي وهل ستنجح رسائل الحالة المغربية في قطر في إقناعهم بحقهم في تعاقد جديد؟

هل سيعزمون.. مادام القضاء لله.