رأي

أحمد الحطاب: من أين أتَتِ الأخلاقُ؟

بالطبع، الأخلاق الحميدة، الراقية والمتماشِية مع حُسن وطِيبِ تساكن وتعايش الناس في المجتمعات. وبالطبع، كذلك، الأخلاق التي ليس وراءها التَّفاخر والتَّباهي بالثروة والمال والجاه والحسب والنَّسب. هذه ليست أخلاقا، بالمفهوم الإنساني. إنها كبرياءٌ واستعلاءٌ على الناس. والأخلاق التي لا تساوي بين الناس، داخلَ المجتمعات ليست أخلاقاً حميدة. 

انطلاقا من هذه الاعتبارات، هناك سؤال لطالما طرحتُه على نفسي منذ مدة. والسؤال هو : "ما هو مصدر الأخلاق أو، كما جاء في عنوان هذه المقالة، من أين أتتِ الأخلاق؟ إنه سؤال بسيط جدا وقصير. لكن رغم هذه البساطة والقِصرِ، كنتُ دائما متردِّدا في الإجابة عليه. تارة، أقول مصدر الأخلاق هو الدين، وتارةً أخرى، أقول الإنسانية هي مصدر الأخلاق، علما أن الدينَ والإنسانية لهما أخلاقهما. الدينُ هِدايةٌ والإنسانية تعايشٌ في المجتمعات. 

فتنبَّهتُ إلى فكرة مهمٍّة للغاية! ما هي هذه الفكرة؟ تتمثَّل هذه الفكرة في كون الدين في حاجة إلى الإنسانية (الإنسان)، بمعنى أنه، لولا وجود الإنسان، ما كان لله، سبحانه وتعالى، أن ينزِّلَ الأديان السماوية، وما كان له، عزَّ وجلَّ، أن يبعثَ للناس أنبياءَ ورُسُلاً لهدايتهم. وما كان، كذلك، لبعض المُفكِّرين الفلاسِفة أن يخلقوا أدياناً وضعية، منذ القِدم، تُتِيح تساكنَ وتعايشَ الناس في المجتمعات. ولعل أقدمَ هؤلاء المفكِّرين الفلاسِفة كونفوشيوس Confucius الذي وضع أُسسَ الديانة الصينية المسمَّاة الكونفوشيوسِية confucianisme، التي سارت عليها الدولة الصينية لعِدَّة قرون. 

وإذا كان الدين في حاجةٍ إلى الإنسانية، فهذه الأخيرة ليست، بالضرورة، في حاجةٍ إلى الدين لتستمرَّ في الحياة. لماذا؟ لأن الإنسانيةَ تتميَّز عن البهيمية أو الحيوانية bestialité ou animalité بالعقل. ولما أنزل اللهُ، سبحانه وتعالى، الأديانَ السماوية، فليس لأن الإنسانيةَ في حاجة إلى الدين. بل لأن اللهَ يريد الخيرَ لهذه الإنسانية. والدين هو الذي يأتي بهذا الخير. والدليل على ذلك أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يُجبِر أحدا لاتِّباع هذا الدين. بل إنه، عزَّ وجلَّ، يوضح للإنسان طريقَ الخير وطريقَ الشر، ويترك الإنسانَ، بعقله، يختارُ واحدا من هذين الطريقين. وهذا هو سرُّ اختلاف الإنسان العاقل عن جميع المخلوقات الحيَّة الأخرى. 

والعقل، من خلال الوعي بما يجري داخلَ وسط العيش، هو الذي يُتيح تساكنَ وتعايشَ الناس في المجتمعات. وهو الذي يفهم الدينَ والإنسانيةَ ويستوعبهما. بل العقل هو الذي يُنتِج، إن على المستوى المعنوي أو المادي، كلَّ ما من شأنه أن يسهِّلَ التَّساكن والتَّعايشَ داخلَ المجتمعات.  

على المستوى المعنوي، العقل هو الذي يُنتِج الأفكارَ والمعارف. والأفكار والمعارف قد تبقى مجرَّد أفكار ومعارف، وقد تتحوَّل إلى قواعد سلوكٍ règles de conduite. حينها، تصبح هذه القواعد هي مرشد تصرُّفات الناس داخل المجتمعات ليتساكنوا ويتعايشوا في أمنٍ وأمانٍ. 

على المستوى المادي، يستطيع الإنسان، بواسطة العقل، أن يُحوِّل بعضا من ما أنتجه هذا العقل من أفكارٍ ومعارفَ إلى أشياء ملموسة، أي لها وجودٌ محسوسٌ، من أدواتٍ وآلات وأجهزة تُساهم، هي الأخرى، في تحسين وتسهيل التساكن والتعايش. 

إذن، مادام العقل هو مصدر كل الأفكار والمعارف التي يعتمد عليها الناسُ، معنويا ومادِّياً، ليتساكنوا ويتعايشوا مع أندادهم داخلَ المجتمعات، فالأخلاق لا تُمطرها السماء. إنها، هي الأخرى، من صُنعِ الإنسان، أي أنها إنتاجٌ أفرزه العقل البشري لأغراضٍ اجتماعية. 

وانطلاقاً من هذا التَّوضيح، يمكن القول بأن الأخلاقَ ظهرت إلى الوجود تزامناً مع ظهور الإنسان العاقل، وخصوصا، لما بدأ هذا الإنسان العاقل يعيش في مجتمعات مُنظَّمة. والدليل على تزامن ظهور الأخلاق وظهور الإنسان العاقل، هو أن النبي والرسول محمد (ص) قال : "إنما بُعِثتُ لأَتمِّمَ مكارمَ الأخلاق". قال الرسول (ص) "لِأُتمِّمَ" ولم يقل لأُنشئَ الأخلاق. بل جاء لتكميل ما كان محموداً (مكارم) من هذه الأخلاق. وهذا دليل على أن الأخلاق كانت موجودة في المجتمعات العربية قبل مجيء الإسلام، بصفة خاصة، وفي المجتمعات الإنسانية، بصفة عامة. فما هي، إذن، الأخلاق؟ 

الأخلاق عبارة عن مجموعة أو منظومة من القِيم les valeurs والمبادئ les principes والسلوكيات les comportements الهدف منها هو تنظيم تساكن وتعايش الأفراد داخلَ المجتمعات. وكل هذه القيم والمبادئ والسلوكيات، هي من إنتاج العقل البشري. 

بعد أن تأكَّدنا أن الأخلاق نابعة، أساسا، من النشاط الفكري البشري، أي مصدرُ بنائها هو العقل البشري، "فما هو دور الرسالات السماوية التي أنزلها اللهُ، سبحانه وتعالى، على الرسل والأنبياء"؟ 

القرآن الكريم واضحٌ في هذا الشأن. الرسالات السماوية انطلقت من الإرادة الإلهية التي تريد الخيرَ للعباد، أي لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، أي لِما لهم فيه خيرٌ، وكذلك، لإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق والإيمان. وعندما أقول "الناس"، فالأمرُ يتعلَّق بأفرادٍ يعيشون داخلَ المجتمعات. وهِداية الناس إلى الصراط المستقيم لا يمكن أن تُحقَّقَ بدون أخلاق. إذن، الرسالات السماوية جاءت لترسيخ ما كان محموداً من الأخلاق في المجتمعات الإنسانية، ولحثِّ الناس، من خلال تشغيل عقولهم، على إرساءِ أخلاق جديدة عبر العبادات. الكل يصبُّ في تحسين وتجويد المعاملات. إذن، الدين ليس مصدراً للأخلاق. بل جاء ليُرسِّخ ما كان محموداً من هذه الأخلاق، وحث العقل البشري على إبداع أخلاق جديدة تتماشى مع تطوُّر وتقدُّم المجتمعات. 

وقد لخص القرآن الكريم مكارمَ الأخلاق ومقابحَها في الآية رقم 104 من سورة آل عمران، التي نصُّها : "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". في هذه الآية، "أمة" هي أمة محمد (ص). أما "الخير" و"المعروف"، فهما كلمتان شاملتان تضمّان في طياتِهما كل الأفكار والأفعال والأعمال (الأخلاق) التي تعود بالنفع على الناس. و"المنكر" هو كل ما يُنكره الناس، أي ما عليهم أن يجتنبوه من أفكار وأفعال وأعمال تسيئ للناس ولمجتمعاتهم.  

والآيات التي تُشير لمكارم الأخلاق كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي :

1."وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (الرحمان، 9). كلام الله، سبحانه وتعالى، موجَّهٌ، في هذه الآية، للناس جميعا، مُنبِّهاً إياهم أن يتجنَّبوا الغشَّ في كل أفكارهم وأفعالهم وأعمالهم، وليس فقط عندما يقومون بالوزن للغير. ولهذا قال، سبحانه وتعالى : "وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ"، أي أن تتجنبوا الأفعالَ والأعمالَ الذميمة المُجانبة لصواب للعقل.  

2."وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (الشعراء، 183). في هذه الآية، يُشير، سبحانه وتعالى، إلى مستويين من النَّهيِ. في المستوى الأول، يُحدِّر، عزَّ وجلَّ، عبادَه من الاستلاءِ على ما للناس فيه حق، أي يُحدِّر العبادَ من السَّطو على حقوق الغير. في المستوى الثاني، يحدِّر العبادَ من بثِّ الفساد في الأرض. والمقصود بالفساد، في هذه الآية، هو الفساد المعنوي والمادي. والفساد، بصفة عامة، هو الخروج عن الاعتدال، أي مَسكُ الأمور من أطرافِها، إما بالإهمال وإما بالتَّطرُّف.  

والفساد المعنوي، هو خروجٌ عن الاعتدال. وهو الذي يقوم به، مثلا، السياسيون من زبونيةٍ clientélisme ومحسوبيةٍ népotisme وكذبٍ mensonges ونفاقٍ hypocrisie…، أي تسيير أمور البلاد والعباد بأخلاق ذميمة وسيِّئة. 

والفساد المادي هو، كذلك، كل ما يخرج عن الاعتدال ويتسبَّب في أضرار ملموسة على أرض الواقع. التلوث pollution بجميع أشكاله كمثال. والتلوُّث ناتج عن عدم تبنِّي الاعتدال في السياسات التنموية. والتلوُّث هو الذي قاد ويقود إلى الاحتباس الحراري effet de serre الذي أدى ويؤدِّي إلى تغيير المناخ changement climatique. والتلوث وتغييرُ المناخ، هما معا، فسادٌ تنموي يكون وراءه الشره la cupidité والإثراءُ السريع enrichissement rapide. 

3."الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران، 134). في هذه الآية الكريمة، بيَّن لنا، سبحانه وتعالى، بعض مكارم الأخلاق المُتمثِّلة، أولاً، في الإنفاق مهما كانت الظروف قاسية أو مُيسَّرة، وثانياً، في إخفاء أو إطفاءِ الغضب الشديد وعدم إظهاره للغير، وثالثاً، في العفو عن الناس. ومفهوم "الْمُحْسِنِينَ"، في هذه الآية، ليس بالمعنى المتداول، أي الإحسان للناس بالعطاء والصدقة. المُحسنون هم مَن يُحسِنون القولَ والفعلَ، أي أن أفعالَهم امتدادٌ لأقوالِهم. 

وفي الختام، الدين ليس هو مصدر الأخلاق، كما يدَّعي كثيرٌ من الناس وعلى رأسهم بعض فقهاءُ وعلماءُ الدين. لكن الدينَ يحث على مكارم الأخلاق وعلى الابتعاد عن مقابحِها. الأخلاق هي إنتاجٌ بشري دعت وتدعو الضرورة الاجتماعية إلى ابتكارِها من طرف عقل الإنسان. والأخلاقُ ليست ثابتة وجامدة، أي صالِحة لكل زمانٍ ومكانٍ. بل من الضروري، أن تتغيَّر كلما تطوَّرت حياة الإنسان. وهذا يعني أن كل تغيير عرفته وتعرفه حياة الإنسان، لا بد أن تقابلَه أخلاقٌ تتلاءم مع هذا التَّغيير. لهذا، الأخلاق ليست وصفة جاهزة une recette prédéfinie يكفي تطبيقُها على أرض الواقع لتكون حلاًّ لمشاكل الناس داخلَ الجتمعات أليس هذا دليلٌ على أن المجتمعات ليست، على الإطلاق، جامدة. فكل جيلٍ من الأجيال التي تعاقبت على العيش في المجتمعات البشرية، له أخلاقه الحميدة وله أخلاقُه الذميمة. والأخلاق، كيفما كانت، حميدة أو ذميمة، مصدرها العقل البشري. 

فمثلا، كلما تطوَّرت العلوم، كلما تطوَّرت معها أخلاقيات العلوم éthique des sciences. فكل مجال من المعرفة إذا تطوَّرَ، تطوَّرت، كذلك، أخلاقياتُه son éthique. فنقول مثلاً أخلاقيات السياسة éthique de la politique، أخلاقيات الطب éthique médicale، أخلاقيات البيئة éthique environnementale…  

"من أين أتَتِ الأخلاق؟". من العقل البشري، الآدمي والإنساني.