رأي

طالع السعود الأطلسي: فرنسا مطلوب فيها رئيس حكومة.. والجزائر الحكمة مطلوبة في رئيسها

كاتب صحفي

بعدَ هُدْنَة الألعاب الأولمبية، عادت فرنسا إلى ضجيجها السياسي، كما يعكِسهُ الإعلام المرئي خاصة. وقد لا يصل هذا المقال إلى قُرائه، منشورا في “العرب”، إلا ويكون الرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، قد عيَّن رئيس الحكومة، بعد حواليْ خمسين يوما من إجراء الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها.

في سياق احتمالاتِ ودلالاتِ وملابساتِ تعيينِ رئيس الحكومة الجديد، فاضَ في منصات الإعلام، خاصة المرئية، نقاشٌ سياسيٌ ساخنٌ وأحيانا حادّ، ولم يتخلَّف عنه أيّ فريقٍ سياسي واستقطبَ كل المحللين والمختصين السياسيين والدستوريين الفرنسيين المعروفين وحتى الناشئين…

 لوحِظَ على النِّقاش أنَّه أنجرَّ إلى الابتعاد عن السِّجالات البرنامجية، المتصلة بتعدُّد، وحتى بتباعُد، الهُويات السياسية والثقافية للمشهد الحزبي الفرنسي… مالَ النقاش أكثر إلى التنقيب عن المُواصفات الشخصية والسياسية المطلوبة في رئيسٍ لحكومة استثنائية، وبالتالي المُفاضلة بيْن مميزات أسماءٍ، جرى التسويق لها مُرشحة لذلك المنصب، من جهة ديوان الرئاسة أو مارَست التسويق الذاتي…

صخب النقاش وملامستُه لبعض أوجُه أزمة النِّظام السياسي الفرنسي، لم يجعل منه نقاشا سياسيا يأخذ الفرنسيين إلى القضايا الكبْرى في الحياة السياسية والاجتماعية الفرنسية. بقي نقاشا مؤطرا بهواجسَ سياسوية عاجزة على اختراق الأزمة البنيوية المتعددة الأبعاد…

انسدادُ النظام السياسي وقصوره على استيعاب التحوُّلات الاجتماعية العميقة وعلى الفعل فيها… تلك التحولات التي أحدَثت داخل فرنسا “فرنسات”، تتصاعد انفعالاتها وتتنامى جاذبيات الصِّدام بيْنها… ولأنَّ النقاش لم يكن سياسيا بالبعد العميق، الشامل والمطلوب في السياسة، فقد خلا من استحضار الامتداد الخارجي لفرنسا… والخارج، بكلِّ حمولاته، بماضيه وبحاضره، جزءٌ من الكيان الفرنسي… ضِمْنيا، سلَّم المشاركون، في جلسات النقاش وحلقات المَكْلَمَات، بأن السياسة الخارجية اختصاصٌ رِئاسي… مع أنّ السياسة العامة الفرنسية تَغلي بحضور تداعيات، تأثيرات وامتدادات الخارج فيها… البُعد الأوروبي بنيوي في الكيان الفرنسي. كذلك البُعد الإفريقي هو من مُغَذِّيات الحياة الفرنسية. وأيضا من المنشطات الحيوية لفرنسا مكانتُها الدولية… كل ذلك، وأكثر، لم يرْشُح منه ولو إشارات في صخب النقاش الفرنسي حول رئاسة الحكومة…

والحال أن العالَم، الذي يُتابع بَقية فُصول “لُعبة البوكر” التي يُديرها الرئيس ماكرون، لا يهمُّه غير أن يرى مُستقبله مع فرنسا… يهمُّه ماذا ستقول له الحكومة المرتقبَة وماذا ستفعل معه… والخشية، كل الخشية، أن تنْغمس تلك الحكومة في أزمة تدبيرية وتشل حركتها حرب الرقابات البرلمانية بحيث لا تقوى على أن تقول لخارج فرنسا أو تفعل معه ما يستوجب قوله وفعله… وخاصة للدول التي تنتظر من فرنسا كثيرا أو قليلا بفعلها…

قليلة هي الدول المُحصَّنة من ذلك التَّرَقُّب المُقلق في علاقتها مع فرنسا… والمغرب من بيْنها… المغرب كان قدْ أوْضَح لفرنسا ضرورة أن توَضِّح مستقبلها معه، وتلجه من البوابة التاريخية والسَّالكة… وفعلتْ. باسم الدولة الفرنسية أعلن الرئيس الفرنسي للعالم بأن تثبيت السيادة المغربية على أقاليمه الصحراوية هو الحل الوحيد والممكن والواقعي لمنازعته فيها… وبذلك فتحت فرنسا لها مُستقبلا مُثمرًا لها في علاقاتها مع المغرب… تُفيد منه اقتصاديا، اجتماعيا ومنْه تُتيح لها دُفعَة جيواستراتيجية لتمَوْقُعٍ، نوْعي وجديد، في إفريقيا… مُرورا من فعاليات المبادرة الأطلسية الملكية المغربية اتّجاه دول الساحل والصحراء الإفريقية…

الأجندة المغربية الفرنسية للأشهر القليلة المقبلة، فيها زيارة الرئيس ماكرون للمغرب… وفيها استثماراتٌ، مبرمجةٌ، فرنسية في الأوراش التنموية المتعددة عبر الأقاليم الجنوبية المغربية، وفي مركزها ورشُ ميناء الداخلة الأطلسي… وهي مَواعيد وفُرص حيوية للدوْلة الفرنسية ومُنعشة لحركية ومردودية الحكومة الفرنسية المُرتقبة، كيفما كانت تركيبتها السياسية وأيّ كان من سيرأسها… وخاصة أن المغرب لدى كل فرقاء النخبة السياسية الفرنسية قيمة ثابتة، جِدِّية ومضمونة، من بين كل دول شمال إفريقيا، وله مكانة مميزة وفاعلة، في الضِّفة الجنوبية للمتوسط وفي الفضاء الإفريقي الرَّحب… ولن يغير من هذه الحقيقة شغَب أو شعْننة خمسةِ أو سبعةِ نُوّابٍ من بعضِ فصائلِ اليسارِ المُتطرِّف، ضد المغرب، أو مقالٌ افتتاحي لصحفي، من أصل جزائري، في جريدة “لوموند الديبلوماسي”، مليئ بالمُغالطات، ركيكُ المُعطيات السياسية، مكتوبٌ من حِبر الموْقف الجزائري الرسمي…

في الجزائر، الإعلام “إيّاه” احتفى بما راج عن عزم فريقٍ سياسيٍ فرنسي على المطالبة بعزْل الرئيس الفرنسي… أمنيةٌ، ومَشْغلَة، هُم أوَّل مَن يعرف هُزالَها، ولكن أمنية مهزوم ومشغلة مهموم…

لن نبْقى في الوضع الجزائري كثيرا… هُناك دخلت البلاد، ولمدة ثلاثة أيام “صمتا انتخابيا”… لا أعرف له مثيلا فيما تابعته من تجاربَ انتخابية عبْر العالم ولعقود… ثلاثة أيام كاملات… لعلَّ الناخب سينسى والمرشح أيضا، أنْ يذهب السبت 7 شتنبر الجاري إلى مكتب، الاقتراع… ولكن عُذرا، ألَم تكن الحملة الانتخابية في كل أيامها صامتة… نعم كان فيها حديث بالوفرة وبدون انقطاع عن “المؤامرات التي يُدَبِّرها المغرب ضد أمن واستقرار الجزائر”، ومُناصروه، فزَّاعة، أمَلا في تعبئة شعبية حوله… وهي مِن خيالٍ فقيرٍ ومُعتلٍّ بعداوَة المغرب… وبها ملئ فراغات حملتِه… وصمتٌ عن ابتكار الأجوبة الصّحيحة للإشكالات العميقة التي تحيط بالجزائر من داخلها ومن خارجها… وأهمّها سؤال كيف تخرج الجزائر من المأزق الذي حشرت فيه نفسها بتحمُّل عداءٍ لحوالي ستين سنة ضدَّ المغرب… وما أنتج لها غير قصور في نموها الداخلي ونفور دولي منها… وذلك القصورُ كما ذلك النفورُ ما كان قدرا لها… وشعبها مقدَّر، ولديها مقدَّرات من الأرض هائلة… تستحق أحسن… والأمل أن يتوفر لها رئيس حكيم، يعكس حكمة قيادة تعي مصلحتها في التجاوب مع حكمة الملك محمد السادس الذي لم يمل من دعوتها للحوار والتفاهم مع جارها، أخيها، وقدرها الإيجابي… المغرب…