وهذا يعني أن جلَّ المسلمين، مسلمون إما بالتَّقليد الاعمى وإما بالتَّخويف، وليس بالاطلاع العقلاني على الدين الإسلامي الذي ينصُّ عليه القرآن الكريم. وهنا، يبرز دورُ علماء وفقهاء الدين الذين، عوض أن يُقرِّبوا الناسَ من الدين كما أراده الله، سبحانه وتعالى، أي دينَ يُسر وليس دين عُسر، فإنهم عقّدوه. بل جعلوا منه دينا موازياً معقَّداً يستجيب لرغباتهم للسيطرة على عقول الناس، عوض أن يوضِّحوه للناس طبقا لما حاء في القرآن الكريم.
وهذان التَّقليد والتَّخويف هما اللذان يجعلان كثيرا من الناس يتأرجحون بين سلوكياتٍ حداثية وعقليات محافظة. وهذا التَّأرجحُ ناتجٌ، في الحقيقة، عن عدم الإلمامِ بالدين والتَّمعُّن فيه، طِبقا لِما ينصُّ عليه القرآن الكريم. فمِن ماذا يخاف المسلمون المُتديِّنون بالتَّقليد أو بالتَّخويف؟
أولا، يخافون من انتقادات المجتمع، التي قد لا ينجو منها أحدُ في المجتمعات المتديِّنة بالتَّوارث. ولا يخفى على أحدٍ أن انتقادات المجتمع، غالبا ما تكون مبنيةً حصريا على القيل والقال commérages والأحكام المُسبقة préjugés.
ثانيا، يخافون من العقاب الإلهي، علما أن اللهَ سبحانه وتعالى، وهب العقلَ لبني آدم ليعيشوا أحراراً في الدنيا، بعد أن بيَّن لهم طريقَ الخير وطريقَ الشر. والعقل البشري هو الذي يختار أحدَ الطريقين.
ولا داعيَ للقول أن علماءَ وفقهاءَ الدين، وهم من كبار المحافظين فكريا وعمليا، لهم دورٌ مهم في بث التَّخويف والرُّعب في نفوس الناس بتبنِّيهِم لدينٍ فيه الانتقام والقتل والاعتداء والعذاب في القبر قبل الآخرة… باختصار شديد، دينٌ كلُّه رُعبٌ وترهيب…، علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، خاطب رسولَه الكريم (ص)، قائلاً : :وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، 107). وهذه الرحمة هي الغائبة في الدين الموازي الذي أراده علماءُ وفقهاءُ الدين.
والدين الذي أراده الله لعباده ليس فيه لا إكراهٌ ولاعنفٌ ولا تخويف ولا ترهيب... إنه، كما سبق الذكرُ، دينُ يُسرٍ وليس، على الإطلاق، دين عُسر. بل الله، سبحانه وتعالى، فضَّل بني آدمَ على الملائكة وأمرهم أن يسجدوا له، تقديرا لهذا التَّفضيل، بعد أن خلقَه من طين ونفخ فيه من روحه. فلماذا خلق الله، سبحانه وتعالى، بني آدم ونفخ فيهم من روحه وفضَّلهم على الملائكة؟
عندما نقرأ القرآنَ الكريمَ، نلاحظ أنه، عزَّ وجلَّ، خلق بني آدم لأنه يريد، أصلاً، أن يُدخلِهم الجنةَ إن هم أطاعوه واتَّبعوا ما سنَّه لهم من طريقٍ مستقيمٍ، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "...أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (البقرة، 221)، أو مصداقا لقولِه، عزَّ وجلَّ : "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (يوتس، 25).
ولهذا، فالدين المتوارث، أي الذي ورثناه عن آبائنا وأمَّهاتنا دين إكراهٍ وعنفٍ وتخويف وترهيب. وهو متناقضُ تمامَ التَّناقص مع الدين الذي نصَّ عليه القرآنُ الكريمُ، الذي هو دينٌ فيه الاختيار والمحبة والمغفرة والتَّواب والرأفة والرحمة واللطف والرِّفق…
فلا غرابةَ أن يحتفظَ عددٌ كبيرٌ من المسلمين، في ذاكرتهم بهذا النوع من الدين المقترن بالإكراه والعنف والتَّخويف والتَّرهيب. وهذا النوع من الدين، هو الذي يجعل غالبيةً عظمى من المتدينين بالتوارث محافظين فكريا وحداثيين سلوكيا. وهذا يعني أن الفكرَ غير متطابق مع السلوك. فتراهم ينطقون بالشهادتين يوميا أثناء الصلاة، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون، خوفا من العذاب الذي لا يفتأ عالمُ أو فقيهٌ أن يُرهبَ به الناس.
ما أختم به هذه المقالة، هو أن يبتعد علماء وفقهاء الدين عن دين المذاهب والطوائف والفرق وأن يعودوا إلى الدين الذي أراده الله للناس أجمعين وبعث آخرَ الرسل والأنبياء، محمد (ص) لنشره بين الناس. غير أن الرسولَ (ص) قد اشتكى، في زمانه، لله قائلا : "...يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان، 30). فما بالُك بنفس القوم، الذين، في عصرنا الحاضر، زاد عددُهم أضعافاً مُضاعفة، والذين غَزَت الحداثةُ جميع مناحي حياتِهم اليومية، دون استشارتِهم؟
ملاحظات : أولا، هذه المقالة، الهدف منها هو التَّنوير وليس أشياء أخرى. ثانيا، قد يقول قائل، الدين مصدره القرآن الكريم والسنة. هذا صحيح. غير أن السنةَ، لمّا اختلطت بالسياسة، تمَّ تحريفُها بكثيرٍ من الأحاديث المنسوبة للرسول (ص). ويستحيل أن يكونَ الرسول (ص) هو مصدرها لأنها مُخالِفة للقرآن الكريم وحتى للعقل.