بعد ثلاثة وثلاثين سنة، عادت قمة الفرنكوفونية في دورتها التاسعة عشرة إلى باريس يومي الخامس والسادس من الشهر الجاري (أكتوبر 2024)، حيث استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحرمه عشرات رؤساء الدول والحكومات. وكم كان مزهوًا يومها، تمامًا كما كان في افتتاح الألعاب الأولمبية التي أبدعت عاصمة الأنوار في تنظيمها.
فكيف كان سيكون يا ترى حال الرئيس لولا إشعاع هاتين التظاهرتين الدوليتين، وهو يتعثر في وحل السياسة الداخلية بين شيخوخة ميلونشون وصبيانية جوردان؟ وفي ظل وضع قال عنه الدكتور المنتصر السويني في مقال مطول: “فرنسا اليوم عاجزة عن اختراع مشروع وطني، ولا تتوفر على نموذج اقتصادي قادر على تمكينها من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. فرنسا اليوم فقدت التحكم في مصيرها؛ فهي تعتمد على الصين من أجل تلبية احتياجاتها من الموارد الأساسية، وتعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق باستيراد التكنولوجيا، وتعتمد كذلك على ألمانيا فيما يخص تمويل مديونيتها.”
ولهذا، يتساءل عدد من المراقبين والمتابعين: ماذا يمكن لفرنسا أن تقدمه للمنظمة العالمية للناطقين بالفرنسية (OIF) في هذه الظروف؟ وهي التي تحتضن حالياً 88 دولة، بينها 54 دولة كاملة العضوية، وسبع دول مشاركة، و27 دولة تتمتع بصفة مراقب. وحسب إحصائيات المنظمة، هناك 321 مليون نسمة في القارات الخمس يتحدثون بالفرنسية من أصل ثمانية مليارات مواطن عالمي، مما يجعل الفرنسية خامس لغة في العالم بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية والعربية.
هذه المنظمة، عندما تم إحداثها في سنة 1970، أُنشئت بجانبها مؤسسات مثل الوكالة الجامعية للفرنكوفونية، جامعة سنجور بالإسكندرية، قناة TV5 monde، والجمعية الدولية لرؤساء البلديات في الدول الفرنكوفونية. في تلك الفترة، كانت فرنسا قد غادرت مستعمراتها في القارات الثلاث، وبالتالي كان لا بد لها من الاستثمار في منظومة فكرية من شأنها ضمان استمرار هيمنة فرنسا، خاصة وأنها كانت قد خلقت نخبة فكرية واقتصادية مرتبطة بها. ولهذا، عرَّف الكاتب والباحث السياسي اللبناني قاسم محمد عثمان الفرنكوفونية بأنها “واقع معاش، ونمط تفكير وسلوك حياة”. ولعل هذا الأمر هو ما جعل الفرنسية مشكلة عوض أن تكون حلاً وقيمة مضافة لمستعمراتها السابقة باعتبارها لغة للتفكير المتعدد.
فمأساة النخب المفرنسة هي أنها كانت ماسكة بزمام الأمور في كل المجالات، واستمرت بالنظر إلى الآخرين كـ”أهالي” (les indigènes). بل أصبحت هذه النخب تجتهد وتسعى لديمومة هذا الوضع بالتحكم في أربع مؤسسات للتنمية الاجتماعية، لا يمكن لأي مجتمع أن يتطور بدون تحريرها:
1. الأسرة: أصبحت الفرنسية وسيلة للتربية، لتحصين الأبناء من الأهالي وما يرمزون له من انتماء وطني وقومي، وحتى ديني أحيانًا.
2. التعليم: ارتبطت الجودة بالفرنسية وبقدرة التلميذ على التفاعل باللغة الفرنسية، وليس بمعايير تربوية أو بيداغوجية أو معرفية أخرى.
3. الإدارة: شكلت مقاومة إبعاد الفرنسية معركة حامية الوطيس منذ عقود، رغم الإرادة السياسية -على الأقل المعبر عنها- من طرف الحكومات المتعاقبة، من أجل تعميم اللغتين الوطنيتين. ورغم التقدم الملحوظ، لا تزال الإدارة تخاطب “الأهالي” في كل ما هو مهم بالفرنسية، وفي الزواج والطلاق وشهادة الاحتياج بالعربية، في انتظار الأمازيغية.
4. المقاولة: هذا العالم لا يزال محصنًا حتى الآن، وغير الناطقين بالفرنسية لا مكان لهم فيه إلا في الأعمال اليدوية وليس في المناصب القيادية. لكن في الوقت نفسه، عالم المقاولة هو نفسه الذي أصبحت تهيمن عليه الإنجليزية يومًا بعد يوم، نظرًا لما يعرفه الاقتصاد العالمي من تحول.
في فاتح مارس 2012، ساهمت بمداخلة في ندوة دولية في كيشيناو، عاصمة مولدافيا، بدعوة من الوكالة الجامعية الفرنكوفونية. وقد ترأس الجلسة الافتتاحية رئيس الدولة ماريان لوبو (Marian Lupu)، وكونه رجل اقتصاد بامتياز وسياسي في نفس الوقت، فلم يفته أن يربط في كلمته المرتجلة بين قوة الدولة واقتصادها وموقع لغتها في العالم .
ولهذا، هناك عدد من الدول المستعمرة سابقًا من طرف فرنسا تخلت عن الفرنسية لفائدة الإنجليزية بالأساس. ولعل خطوات بلادنا التي تسير في هذا الاتجاه تعد إنصافًا لعمق مغربنا ومجتمعنا، وتصالحًا مع جهات بكاملها. فالنخبة المغربية الناطقة بالإسبانية التي لا تزال على قيد الحياة في شمال المملكة وجنوبها، منطقتي الاستعمار الإسباني، لا تزال تتذكر كيف عمل اللوبي الفرنكوفوني على إبعادها منذ الاستقلال من كل مراكز القرار التي كان من الممكن أن تساهم من خلالها في بناء مغرب متعدد.
وهكذا، فإن الانتقال من الفرنسية إلى الإنجليزية ليس فقط انتقالًا من لغة إلى أخرى، ولكنه إنهاء لنمط تفكير لم يتخلص نهائيًا من شوائب الماضي الكولونيالي الذي يسعى إلى تقزيم كل ما هو وطني.
أما الفرنسية التي اعشقها كلغة وتعبير حضاري، ستبقى دائمًا بجانب اللغات الأخرى ثروة وإثراء للفكر الإنساني من خلال ما أبدعه ولا يزال روادها، حتى وإن كانت فرنسا لم تعد اليوم نموذجًا حتى لنفسها، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون الذي فضل ان ينهي حياته بالولايات المتحدة الأمريكية .