فن وإعلام

مارلين ديتريش: السينما كحرية شخصية وكرامة إنسانية

عبد الله الساورة

ليست مارلين ديتريش (Marlene Dietrich) نجمةً سينمائية فحسب، بل فكرةً كاملة عن الحرية والتمثيل والكرامة. جاءت من برلين إلى هوليوود وهي تحمل ثقافة أوروبية عميقة، ووعياً مبكراً بدور الفن في تشكيل المواقف، فصاغت مسيرةً جعلت من الممثّل مفكّراً بصرياً لا مجرّد مؤدٍ للأدوار.

انطلقت شهرتها العالمية مع فيلم The Blue Angel – الملاك الأزرق (1930) بإخراج جوزيف فون شتيرنبرغ، حيث قدّمت شخصية “لولا لولا” التي كسرت صورة المرأة التقليدية، وجعلت من الجاذبية أداةً للتمرّد لا للإغواء السطحي. رأت ديتريش أن السينما ليست مرآة للواقع فقط، بل «وسيلة لقول ما لا يُقال مباشرة»، وكانت تؤمن بأن وظيفة الممثّل هي “اقتراح المعنى” لا شرحه.

علاقتها بشتيرنبرغ شكّلت مرحلة مفصلية: ستة أفلام رسّخت أسطورتها البصرية، منها Morocco – المغرب (1930)، Shanghai Express – قطار شنغهاي السريع (1932)، وThe Scarlet Empress – الإمبراطورة القرمزية (1934). كان يضيئها بوصفها تمثالاً ضوئياً، لكنها كانت شريكة واعية في بناء الصورة. قالت يوماً، بمعنى واضح: «المخرج العظيم لا يصنعك، بل يراك». هذه العلاقة، رغم توتّرها لاحقاً، كشفت إدراكها لسلطة الصورة وكيف تُدار.

رؤية ديتريش للسينما ارتبطت بفكرة الكرامة. رفضت النازية، وغادرت ألمانيا، ثم دعمت الحلفاء علناً خلال الحرب العالمية الثانية. بالنسبة لها، كان موقف الفنان جزءاً من دوره العام. تُنسب إليها عبارة دالّة: «الوطن هو المكان الذي لا يُطلب منك فيه أن تكذب». هذه الأخلاق انعكست على اختياراتها اللاحقة، حتى عندما بدت تجارية.

في هوليوود، وسّعت مروحتها التمثيلية في أفلام مثل Destry Rides Again – ديستري يعود من جديد (1939)، حيث قلبت صورة “المرأة الخطِرة” إلى شخصية ساخرة وقوية، وWitness for the Prosecution – شاهد الاتهام (1957) لبيلي وايلدر، الذي قدّمها بذكاء درامي بعيد عن الأسطرة البصرية الأولى. مع وايلدر تحديداً، وجدت توازناً بين الأداء والنص، وكانت تقول: «التمثيل الجيد يبدأ حين تثق بالكلمات».

ماهية أن تكون ممثلاً، في نظر ديتريش، تعني الانضباط والقراءة. كانت قارئة نهمة للأدب الألماني والفرنسي والروسي؛ اهتمت بغوته، هاينه، تولستوي، وبلزاك، ووجدت في الرواية تدريباً على فهم الدوافع الإنسانية. القراءة، كما كانت ترى، تمنح الممثّل “ذاكرة أخلاقية” تجعله قادراً على التعاطف دون ابتذال.

علاقاتها العاطفية، التي شملت فنانين وكتّاباً ومخرجين، لم تكن فضائحية بقدر ما كانت امتداداً لفهمها الحرّ للحياة. حافظت على استقلالها، وميّزت دائماً بين الحب والتملّك. كانت تردّد بمعنى ثابت: «الحب لا يُلغي الكرامة، بل يختبرها». هذا الموقف جعلها موضع جدل نقدي، لكنه عزّز صورتها كفنانة لا تُساوم.

النقّاد انقسموا حولها: بعضهم اتهمها بالبرود المتعمّد، وآخرون رأوا في ذلك وعياً أدائياً يرفض الانفعال الزائد. هي نفسها كانت تقول: «الاقتصاد في التعبير هو شكل من الصدق». ومع تقدّمها في العمر، اختارت الانسحاب بهدوء، مفضّلة الأسطورة المُحكَمة على التكرار.

مسيرة مارلينه ديتريش خلاصةُ فنانةٍ رأت السينما موقفاً أخلاقياً وجمالياً في آن. بين A Foreign Affair – علاقة أجنبية (1948) وJudgment at Nuremberg – الحكم في نورمبرغ (1961)، بقيت وفية لفكرة واحدة: أن التمثيل ليس تنكّراً، بل كشفٌ محسوب للحقيقة. هكذا، لم تترك أفلاماً فقط، بل تركت درساً في الحرية والاختيار. 

ملاحظة هذه الصورة سنة 1929