إنه واقع. فمنذ ما يقارب عقدًا من الزمن، ظلت النقاشات المرتبطة بفلسفة الإعلام المغربي، من أجل بلورة صيغة للتنظيم الذاتي للقطاع، تنصب أساسًا على «بطاقة الصحافة» وأخلاقيات المهنة.
وبهذا الطرح، جرى بناء المنظومة حول وثيقة إدارية، مقرونة بسلوك يُفترض أن يكون مطابقًا للأخلاق، تُحدده وتتابعه وتراقبه هيئة من «الحكماء».
هذا ما دافع عنه حراس المعبد، دون الحديث عن الكفاءة المهنية، التي جرى تقليصها وتدبيرها وتحسينها عبر تكوينات مستمرة تُنظم من حين لآخر، ويتم الترويج لها إعلاميًا على نطاق واسع حتى يتحدث الجميع عن الحدث. باختصار، قطاع مكوَّن من مجرد تقنيين (شهادة الإجازة أو دبلوم لا يعادل بالضرورة الإجازة!)، يحترمون القانون ويتوفرون على بطاقات تصبح معركتهم السنوية. تلك هي المصفوفة!
قد يشتغل هذا النظام بعد تركيبه، لكن بصعوبة ولمدة محدودة، قبل أن ينهار بالكامل.
وهكذا، فإن مسألة الأخلاقيات، التي جرى التلويح بها لتغليف «الحزمة»، اتضح أنها تعني لدى حراس المعبد عكس ما تعنيه عادة.
وبالمثل، تبيّن أن إشكالية «بطاقات الصحافة» هي الأخرى إشكالية حقيقية، ما دام ملفها، الذي كان ينبغي نشره في إطار الشفافية، قد وُضع في خانة «سري للغاية»، وكأن نشر لائحة حاملي البطاقة الشهيرة من شأنه أن يهدد الأمن القومي ويمس بالمصالح الاستراتيجية للبلاد.
ويبدو أن قرار عدم نشر هذه اللائحة كان دافعه تفادي السخرية، لأن طرح الموضوع للنقاش العلني سيجعله مادة للتندر والاستهزاء.
هذا الانحدار ليس سوى نتيجة مباشرة لتشريع صاغه «المصباح» وحلفاؤه من أجل وضع اليد على القطاع.
في الواقع، هو تتويج لمنعطف 2015-2016، الذي دبره ذلك التحالف السياسي، حيث جرى تزييت مفاصل الآلة الإعلامية آنذاك بغلاف مالي قدره 12 مليون درهم.
وهكذا، دُقَّ المسمار لخدمة المصالح الانتخابية والسياسية والجدلية للتحالف المذكور، عبر آلة مُزيّتة ومضخَّمة على شبكة الإنترنت بواسطة نوافذ إعلامية أحدثت خرابًا كبيرًا لتشويش الأوراق.
في تلك اللحظة، استيقظ المعسكر الآخر وانتفض من أجل تصحيح الوضع واحتوائه، حفاظًا على التوازن وإبعاده عن الروائح السياسية.
وعليه، تعطلت الآلة التي زُيِّت من طرف «المصباح» وأُخرجت من الخدمة، وأصبح من المستحيل إعادة تشغيلها على أسس جديدة. وهو ما دفع صناع القرار، الظاهرين والخفيين، إلى الإبقاء على الهيكل لأغراض الصورة الديمقراطية، وتركيب محرك جديد داخله.
وبهذه المقاربة، جرى اختراع معايير جديدة لإحكام إغلاق التشكيلة الجديدة، وفي الوقت نفسه سد الطريق أمام الارتباطات السياسية. وفي هذا السياق، تم إدخال معيار رقم المعاملات (حجم المداخيل) إلى المسار الانتخابي.
لأنه إذا جرت العملية الانتخابية وفق نفس «القانون الانتخابي» لسنة 2018، فإن معسكر تحالف «المصباح» سيحصد كل الأصوات، ويمهد كل السبل للاستحواذ على مفاتيح التنظيم الذاتي، التي لن يتخلى عنها أبدًا.
لقد أعاد هذا التحالف تشكيل القطاع وفق ممارسات حزبية تضمن انتخاب وإعادة انتخاب «زعيم» لولاية تلو الأخرى. وهذه الممارسة هي التي جرى تقويضها بإدخال معيار رقم المعاملات. وبالتالي، فإن هذا المعيار لا فائدة منه سوى كبح التسونامي الانتخابي للمعسكر القريب من تحالف «المصباح».
لكن يبدو أن الأمر ليس سوى شرٍّ لا بد منه لإبعاد الشر السياسي، ثم إعادة النظر لاحقًا في قانون مثير للجدل.
لأن التاريخ كان دائمًا وسيظل يحتفظ بالكتابات التي طبعت، وأثرت، وربما أحدثت ثورات في السياقات السياسية، وليس بأرقام معاملات المقاولات الصحفية. فالكلمات تبقى، والتاريخ يشهد.
قادة هذه الآلة يدركون ذلك جيدًا، لكن يبدو أن منعطف إعادة التشكيل يفرض إجراءات مؤلمة، من أجل تمهيد الطريق لاحقًا لبنية تنظيم ذاتي تعكس صورة البلد.






