سياسة واقتصاد

نُصدّر الثروة… ونستورد الفقر: متى يختار المغرب طريق الإنتاج؟

البشير احشموض (النائب الأول لرئيس غرفة التجارة والصناعة والخدمات لجهة سوس ماسة)
يسجل المغرب خلال السنوات الأخيرة أرقامًا مهمة في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويُقدَّم ذلك غالبًا باعتباره دليلًا على نجاح النموذج الاقتصادي المعتمد. غير أن الواقع المعيش للمغاربة يفرض سؤالًا بسيطًا ومقلقًا في آن واحد: هل تحسّن هذا المسار من مستوى العيش؟ هل خلق قيمة مضافة حقيقية؟ هل عزّز العدالة الاجتماعية؟

بعد أكثر من خمسين سنة من التجربة الميدانية في قطاعات الصيد البحري، والصناعات الغذائية، والتجارة، أقولها بوضوح: المغرب لا يعاني من فقر في الموارد، بل من خلل عميق في الخيارات الاقتصادية والسياسية.

تصدير الموارد الطبيعية، البحرية والفلاحية والمعدنية، في شكلها الخام، ليس خيارًا تقنيًا ولا إكراهًا خارجيًا، بل سياسة عمومية واعية. وهي سياسة تقود، في الأمد القريب والبعيد، إلى إفقار البلاد وإضعاف المجتمع. فعندما يُصدَّر السمك دون تحويل، والمنتوج الفلاحي دون تصنيع، والمعادن دون تثمين، فإننا لا نُصدّر سلعًا فقط، بل نُصدّر فرص الشغل، والقيمة المضافة، ومستقبل الأجيال القادمة. فالدول لا تُبنى بما تختزنه من ثروات، بل بما تحوّله داخل حدودها.

لقد أصبح من الضروري، بل من الواجب، تسمية الأشياء بأسمائها: الريع لم يعد استثناءً عابرًا في الاقتصاد الوطني، بل تحوّل إلى نمط مهيمن في تدبير قطاعات واسعة منه. ريع في العقار، ريع في الرخص، ريع في الامتيازات، وريع في الصفقات العمومية… وفي المقابل إنتاج ضعيف، صناعة هشة، ونسيج اقتصادي عاجز عن امتصاص الطاقات المتعلمة.

والنتيجة واضحة: طبقة وسطى تتآكل سنة بعد أخرى، وبطالة تتفاقم بشكل مقلق، خصوصًا في صفوف خريجي الجامعات، والمدارس العليا للمهندسين، ومؤسسات التكوين المهني، الذين يجدون أنفسهم خارج دورة الإنتاج، رغم ما راكمه الوطن من استثمارات في تكوينهم

على الدولة المغربية أن تُنهي مرحلة الريع، وتدخل دون تردد مرحلة الإنتاج. فالريع يستهلك الثروة، بينما الإنتاج يصنعها. والأمم لا تُقاس بما تُوزِّع من امتيازات، بل بما تُنتج من قيمة مضافة وفرص عيش كريمة.

المفارقة المؤلمة أن المغرب استثمر لعقود في تكوين أطره وكفاءاته، ثم تركهم يبحثون عن الاعتراف خارج وطنهم. شبابنا ليس عاجزًا عن الإنتاج، بل محاصَر بنموذج اقتصادي لا يؤمن بالتصنيع ولا بالتحويل المحلي، ولا يضع الرأسمال البشري في قلب المشروع الوطني.

في الصيد البحري، كما في الفلاحة والمعادن، لا معنى للحديث عن تنمية دون فرض التحويل المحلي كخيار وطني إلزامي. كل سياسة تسمح بتصدير الخام هي سياسة ضد التشغيل، وضد العدالة الاجتماعية، وضد السيادة الاقتصادية.

ولا يمكن لأي دولة أن تدّعي السيادة وهي تُصدّر منتجاتها البحرية والفلاحية والمعدنية في شكلها الخام، بذريعة جلب العملة الصعبة، ثم تنتظر تنمية حقيقية أو عدالة اجتماعية. هذا ليس قدرًا اقتصاديًا، بل خيار سياسي واعٍ تتحمل الدولة مسؤوليته كاملة أمام شعبها وتاريخها.

لقد طال الاحتماء بلغة الأرقام، وطال تبرير الفشل بخطاب الاستثمار والعملة الصعبة. السيادة الاقتصادية لا تُقاس بعدد الاتفاقيات، بل بعدد المصانع، وبمستوى الأجور، وبقدرة المواطن على العيش بكرامة داخل وطنه. وإن لم يُفرَض التحويل المحلي للمنتجات البحرية والفلاحية والمعدنية كخيار وطني غير قابل للتراجع، فكل حديث عن التنمية يظل خطابًا سياسويًا للاستهلاك، لا مشروعًا وطنيًا للمستقبل.