كيف أخذت كلمة " شيخة " في لساننا المغربي الدارج هذا المعنى القدحي، و أصبحت سبة و شتيمة و وصمة عار .
ما هو التحول في ممارسة هذا النمط من الغناء الذي جعل كلمة "شيخة " التي أخذت منحى فنيا في زمن سابق و كانت لقبا يستخدم للدلالة على المرأة التي تغني في المجالس و تطرب السامعين إلى درجة أنهم من باب التكريم و الاستحسان أصبحوا ينادونها " شيخة " التي تعادل في معناها " الأميرة " .
هذه العبارة كانت متداولة في مصر ، فكان الرجل ينادي زوجته " يا شيخة " أي " يا أميرة " .
ليس هذا التفسير غريبا أو بعيدا عن الحقيقة . فالمستشرق الانجليزي " إدوار وليام لاين " في كتابه عادات المصريين المُحْدَثين و تقاليدهم " و الذي وصف فيه المجتمع المصري ما بين سنة 1833 و 1835 ، تحدث باسهاب عن طائفة من عيساوة قدموا من المغرب للمشاركة في احتفالات المولد المقام في القاهرة بمناسبة ذكرى مولد سيدنا الحسين .
و لقد كان عرض الطائفة العيساوية مبهرا بل و منتظرا حتى أن المستشرق الانجليزي كتب بالحرف أن هذا العرض " استقطب الحشود " .
إنني أقدم تفسيرا آخر لمعنى كلمة شيخة بعيدا عن كل اسناد بمرجعية فقهية كما حاول بعض الباحثين قبيلي تقديمه . إن كلمة شيخة في هذا الباب تحمل معنى الإستحسان و الاعجاب بمهارة المغنية و دُرْبَتِها و براعتها في الأداء و الغناء .
لكن كيف سقط هذا الاسم و هوى من مرتبة الاستحسان إلى أسفل مراتب الاستهجان ؟ إن حديثي عن مصر ، يفتح شهيتي للكلام عن شارع محمد علي الذي كان يعج بالملاهي و الحانات و الليالي و السهرات التي كانت تحييها " العوالم " ( المغنيات ) و " الغاوازي " ( الراقصات ) . من بين دخان السجائر و لفافات التبغ كان يبدو للراقصات و سط عتمة الحانات ، بريق القطع النقدية اللماعة . فكان الزبون يبلل قطعا نقدية بريقه و يلصقها على جبهة الغازية ( الراقصة ) فتبدو نقطة وضاءة على الجبين . من هنا جاءت تسمية " النُّقْطة " أي ذلك المبلغ النقدي الذي ننفح به الراقصة و نقدمه لها هدية. هذه " النقطة " اتخذت في المغرب مقابلا آخر هو " الغرامة " .
معنى أن هذا المال الذي يقدم هو مجرد تبذير و خسارة و كأن الشخص يُلزِمُ نفسه بأداء هذا المبلغ تأديبا لنفسه لأنه حضر مجلسا يسوده المجون . كنت صغيرا في مدينة الدارالبيضاء و أنا في طريقي إلى المدرسة مجبرا على العبور من مكان جعلني كثير التساؤل . أحاول إيجاد قواسم مشتركة بين تجمع سكني له باب و مدخل واحد ( انظر الصورة ) يسمى " بوسبير " . كان الأهل ينصحونني دائما بالإبتعاد عنه لأنه مكان مشبوه . سأعرف فيما بعد أنه تجمع سكني أعدته سلطات الحماية الفرنسية للدعارة و المتعة الجنسية الرخيصة . الآن أجد تفسيرا ، لماذا كان قبالة هذا المجمع السكني مقهى كل رواده من الآلاتيين و العازفين الشعبيين . حتى أن بعض البيوت في الأزقة الخلفية الضيقة كانت تسكنها " الشيخات " .
ما أشبه " النقطة " في مصر ب "الغرامة " في المغرب و ما أشبه " عوالم " و " غوازي " شارع محمد علي في القاهرة بشيخات بوسبير في الدارالبيضاء . هذه السمعة السيئة هي التي جعلت الأسر المحافظة تنظر إلى " الشيخة " نظرة تحفظ و حيطة و احتراز . لأن من أصبحن يتعاطين الغناء في تلك الظروف كن بائعات هوى .يمارسن ما لا يخطر على بال و قد يشتتن الأسر و يفرقن بين الأزواج .
