حين يكبر المرء، ينضج فيه شيء لا يشبه ذلك النضج الذي كانت الكتب تبشر به في الصغر.
لا يصبح أكثر ذكاء، ولا أكثر دهاء، بل يصبح أكثر هدوءاً، كأن العمر حين يثقل على الروح يُعلّمها لغة أخرى غير الكلام.
تنضج الحواس قبل العقل، فتستيقظ العين على تفاصيل كانت غائبة، ويصبح للسكوت طعم، وللانتباه معنى، وللمسافة حكمة.
لم تعد الشوارع تغريك كما كانت، ولا المقاهي تستهويك بزحمتها وأحاديثها المتقطعة.
يضيق صدرك من الضجيج الذي كنتَ تحسبه حياة، وتزهد في صخب كان يظن نفسه صديقك. الذين اعتدت أن تراقبهم في عبورهم، صاروا اليوم مجرد ظلال تمرّ، لا توقظ فيك شيئاً، ولا تُحدث في داخلك تلك الرجّة القديمة. ما عاد الجسد يلهث خلف الأشياء… أصبح يبتعد عنها بهدوء، كمن عرف حقيقتها وابتسم.
الكِبر ليس شيخوخة، بل تخلٍّ. تخلٍّ واسع، بطيء، ولكنه ضروري. تتخلّى عن حاجات كثيرة، عن رغبات كانت تظنها أساسية، فتكتشف أنها كانت مجرد ضوضاء تملأ الفراغ. تصبح الحياة نفسها أبسط، والحاجة أقل، والاستغناء أكثر شبهاً بالراحة. تعيش بالحدّ الأدنى، كأنك وجدت أخيراً البيت الداخلي الذي كنت تبحث عنه.
تلوذ بصمتك لا لأنك عاجز عن الكلام، بل لأنك أدركت أن كثيراً مما يُقال لا يستحق أن يُسمع. يصير لك عالمك الداخلي، ذلك الركن العميق الذي لم تنتبه لوجوده إلا عندما تعب الخارج منك. هناك، في تلك الزاوية البعيدة، تبدأ بالجلوس مع نفسك كما لم تفعل من قبل: تصالحها، تسألها، تربت عليها، وتمنحها تلك العناية التي لطالما أنكرتها عليها.
الكبر لا يجعلنا أكثر حكمة فحسب… بل يجعلنا أقل ألماً. لأنه يعطينا القدرة المدهشة على قول: “دع يمرّ.”
وما أكثر الأشياء التي تمرّ، حين نتوقف عن مطاردتها.






