هذا الدين الضمني له مرافقه وبيوته، حيث تؤدى طقوسه، ويعيش المشجع خمرة الإيمان، شأنه شأن المتصوف الذي يعيش “العمارة الصوفية”، ويتحول الملعب من مجرد بنية إسمنتية إلى فضاء طقسي بامتياز. فالدخول إليه في يوم المباراة يشبه الدخول إلى مكان شعائري منظم بدقة. فهناك أوقات محددة ومواعيد للمباريات، وهناك لباس خاص (أقمصة، وألوان، وأوشحة)، وتصدح الجماهير في تناغم بأناشيد جماعية، وهتافات، وتعيش لحظات صمت وانفجار، وبكاء ونشوة، ودعاء، وصلوات، وسجود وغيره من الطقوس، فتنتقل خطاطات الممارسات الدينية التقليدية الى المدرج والبساط الأخضر. وفي هذه الحالات، يتجلى ما سماه عالم الاجتماع إميل دوركايم “بالفيض الجماعي”، وهو شعور يتجاوز الفرد عند ذوبانه في الجماعة، حيث تختفي الذات الفردية داخل الذات الجماعية.
تنتج كرة القدم سرديات كبرى تشبه الحكايات الدينية، فهناك فريق مظلوم ، قد يتبنى خطاب المظلومية، كما وقع في حالة الجزائر عند إقصائها من العبور لمونديال قطر، إذ حملت المسؤولية للحَكَم، وهناك فرق تٌهزَم، لكنها تنهض من الهزيمة، وتتحول الخسارة إلى أسطورة مٌؤسِّسة. وهناك لاعب يُقدَّس، وآخر يُدان، ويعاش الموسم الكروي كرحلة خلاص أو سقوط حَلَقي. تلك هي السرديات التي تمنح الحياة اليومية معنى إضافيًا، وتٌحوِّل الزمن الرياضي إلى زمن أخلاقي، يتضمن الصبر، والأمل، والإيمان، والمجازفة، والمقامرة، والخيبة، ثم عودة الإيمان من جديد.
في هذا الإطار، تبرز التميمة – مثل تميمة كأس إفريقيا للأمم “أسد”2025 –بوصفها تجسيدًا بصريًا للمقدّس الرياضي. فالتميمة تختزل الأمة في شخصية واحدة، وتُبسّط الهوية دون إفراغها من دلالتها. فتسمح التميمة بالتداول، واللعب، والتملك الرمزي، فالأسد هنا ليس مجرد حيوان كرتوني، بل هو شخصنة للانتماء الجماعي. يتمثل الأسد في الصورة لاعبا يافعا، قويا، لكنه ودود، وقريب من الأطفال، مشبع بدلالة السيادة والقيادة. إنها صيغة حديثة للرمز المقدّس القابل للاستهلاك، فلا ننسى أن رمز الأسد هو رمز الوحدة بالمغرب، والدرع الملكي في شعار المملكة يدعمه أسدان اطلسيان.
تتحول كرة القدم في البطولات الكبرى إلى دين مدني، حيث يظهر العلم، والنشيد الوطني، والمنتخب، والنجوم، والتميمة، وكلها عناصر تشكّل طقسًا وطنيًا دوريًا. وفي هذا السياق، لا تُمارَس الوطنية عبر الخطب أو الشعارات السياسية، بل عبر اللعب، والمشاهدة، والتشجيع، والمشاركة الرمزية، وهنا تتجلى قوة كرة القدم الحقيقية، فهي تُنتج شعورًا بالوحدة الاجتماعية دون أي إكراه، وتبني هوية جماعية مشتركة تذوب فيها الفوارق الاجتماعية وتصبح غير مرئية، من دون حاجة إلى خطاب أيديولوجي مباشر. يهتف الغني والفقير معًا في المدرّجات، باسم الفريق وباسم الوطن.
ولتقديم فهم نظري أعمق لهذه الظاهرة، يمكن الاستعانة بمفهوم “الدين الضمني”، كما طوّره عالم الاجتماع البريطاني إدوارد بايلي. فبايلي لا يعرّف الدين انطلاقًا من العقيدة أو المؤسسة، بل من خلال درجة الالتزام، والممارسة الطقسية، ومركزية المعنى في الحياة اليومية. وبهذا المعنى، تؤدي كرة القدم الوظائف نفسها التي يؤديها الدين، حيث تخلق انتماءً طويل الأمد، وتنظّم الزمن عبر طقوس متكررة، وتمنح الأفراد إحساسًا بالهوية والمعنى يتجاوز حياتهم الفردية. إنها دين بلا لاهوت، لكنها مشبعة بالرموز، والعاطفة، والقداسة الجماعية. ورغم كل ذلك، فلا يمكن اعتبار كرة القدم عقيدة بالمعنى الدقيق للكلمة. فالعقيدة تقوم على نسق من المعتقدات المُلزِمة حول الحقيقة، والوجود، والخلاص، وما يجب الإيمان به أو رفضه، لكن كرة القدم لا تقدّم تفسيرًا كونيًا للعالم، ولا إجابات عن أصل الوجود أو غايته، ولا تصورًا ميتافيزيقيًا للخير والشر. كما أن العقيدة تفترض نصًا مرجعيًا أو سلطة معيارية، بينما تفتقر كرة القدم إلى نص مؤسس أو إيمان مُلزِم، على الرغم من وجود قواعد اللعبة التنظيمية، وهي قابلة للتغيير دون أن يهتز “الإيمان” باللعبة. إن الانتماء العقائدي يكون شاملًا للحياة كلها، في حين أن انتماء كرة القدم جزئي ومجالي، وحتى إن كان قويًا عاطفيًا. لهذا تصنف كدين ضمني لا عقيدة. وكرة القدم لا تنتج إيمانا دوغمائيًا، لكنها تُنتج التزامًا، وطقوسًا، ومعنى جماعيًا، وأحيانا تعصبا مرفقا بإساءات عنصرية، كما هو الشأن مع لاعب مدريد فينيسيوس.
إنها ليست عقيدة تُعتنق… بل تجربة تُعاش.
يتعزز هذا البعد الضمني لكرة القدم اليوم عبر المنصات الرقمية مثل يوتيوب وتيك توك، حيث تعاد صياغة اللعبة في مقاطع قصيرة تمزج بين المهارة، والفكاهة، والموسيقى. وهذه المقاطع لا تكتفي بعرض الأداء الرياضي، بل تحوّله إلى طقس يومي خفيف قابل للمشاركة والتكرار، حيث يربط الجماهير باللاعبين عاطفيًا خارج زمن المباراة الرسمي، ويخلق الضحكة، والنكتة، وتصبح الحركة المتقنة أداة لإعادة إنتاج الانتماء، ولتطبيع القداسة الرمزية في شكل مرح متاح للجميع. في عالم تتلاشى فيه معاني الإيمان المؤسساتي، أو لا تستطيع بناء لحمة اجتماعية، قد تتقدم كرة القدم لتملأ فراغ هذه المعاني الثقافية…لا باعتبارها دينًا بالمعنى التقليدي، بل بوصفها دينًا ضمنيًا، وطقسًا بلا معبد، وقداسة بلا إله، وإيمانًا جماعيًا يُمارَس عبر اللعب، والصورة، والشعور بالانتماء.






