قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق ..5 واقع ومعيقات(أ)

سامر أبو القاسم

 

بالإمكان الجزم أن ضعف وتخلف الأسرة بالبلدان الإسلامية وفساد مقومات بنائها هو سِرُّ فساد مجتمعاتها ودولها، خاصة عند الوقوف على أوضاعها اليوم.

 فلا هي قائمة على التّرابط وحُسن المعاشرة والتربية القويمة والقدرة على حل المشاكل ونبذ الآفات؛ ولا هي في مستوى الارتقاء ببنائها على أساس التماسك والتناصر بين أفرادها.

وقد استحسن المُتنفِّعون والمُتقاعِسون هذه الأوضاع، وتفادوا العمل على تجاوز أسبابها ومسبباتها، واستلذُّوا ما طاب من الأقوال والأفعال في مجاراة التطبيع مع العشوائية والتفاهة للانتفاع، ومنهم من انساق وارء جاذبية الغلو والتشدد المفضيين إلى التطرف والعنف والتشتت والمزيد من إضعاف الدولة ومؤسساتها.

وبدل السعي إلى ما تدعو إليه الحاجة من تقوية قدرات هذه المجتمعات وإمكاناتها من أجل التعاضد وإثبات الذات، لا زال هناك من لا يشغل بَالُهُ سوى بالتّعمق في فهم سرِّ قوّة العلمانية واستهدافها للأسرة المسلمة والمرأة والهوية. وهذا هو واقع حال تفكير المجمعات الفقهية والدعوية، حيث لا انشغال لها إلا بالخوض فيما وَقَرَ في قلوب الناس من إيمان وما استأثر الله بعلمه، وكأنهم في منأى عن التفكير فيما يصبو إليه الناس من ضروارت وحاجات لا تقوم دونَها كرامتُهم في الحياة الدنيا ولا يستقيم أمر جزائهم في الحياة الأخرى. فتاه المُتشدِّقون بالعلم في تفاصيل الاعتقاد، وفي لي أعناق الآيات والأحاديث للتمييز بين الفجور والتقوى فيما يُنظَر إليه من عَفَاف وفُحْش يدعو إلى تحليل وتحريم، وفي تعطيل العقل وحِكَم الخَلْق ومقاصد التشريع. بل وغاصوا في نَسْخ كل ما يسعى إلى التّيسير على المُكلَّفين من نصوص وأحكام، بما يدفع إلى الضّيق والحرج والمشقة والعسر، في إهمال للمأثور " لن يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه".

فنيران التَّوَحُّش تَلْفَح النّاس في معيشهم، والسياسة صارت تُلعَب بوحشية، وكأنها طاحونةٌ لا تدور إلا بأفكار بالية بعيدة عن الأخلاق والمبادئ الإنسانية، لتسقط بالغالبية في الرداءة ونشر الإساءة في المحيط، ولتَعْبُر حدود المآسي الاجتماعية. فما أن يشتمّ البعض رائحة الرغبة في القيام بعملية تقييم أثر مقتضيات قانون الأسرة في الواقع حتى يخترق رجعُ الصّدى المسامع من جديد، وتبدأ الأصوات تتعالى بتكثيف التعبير عن مواقف مناهضة لأي تعديل أو تغيير وبرفع شعار "الدين مرجع أساسي للتشريع"، ضدا على المأثور الذي يحث على المراجعة والتجديد: (لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل).

وعديدة هي التساؤلات التي تقفز إلى الذهن كلما طُرح قانون الأسرة للنقاش والتداول، أو أُثيرت مشكلة مرتبطة به، وكثيرة هي التّشابكات الحاصلة في معالجة موضوع من موضوعاته لتداخل منطلقات وأبعاد النقاش ذاته، ويزيد أمر التعقيد في هذا الباب بالوقوف على المطالب المتناقضة المُعبّر عنها. وكلما تمّ اللجوء إلى استحضار بعض التجارب الدولية في إطار البحث عن نماذج وممارسات جيدة وناجحة للمساهمة في معالجة الموضوع والنهوض بالأسرة وتحسين شروط العيش بالنسبة للناس، اسْتَعَرَت حروب الجدل الكلامي بين مختلف الأطياف، لتصل إلى حد خلق توترات عاصفة بكل جهود التحديث بسبب رفض هذا اللجوء، بمبررات دينية وحضارية وثقافية، ودونما أي اعتبار لإنقاذ القادم من الأجيال من ويلات هذه الخلافات غير المُجدِية والمُغذِّية لعوامل ودواعي الدّمار الأسري. وهو ما يُصعِّب عملية البحث عن حلول ملائمة لما تتخبط فيه الأسرة من عدم استقرار مُؤثِّر على البنية المجتمعية بشكل عام، ويساهم في تصعيد حدّة التوتر كلما ظهر في الساحة أي مقترح يتعلق بإجراء تدخل من أجل تقويم الوضع الأسري كجزء أساسي من إصلاح أوضاع البلاد.

وبتوجيه النّظر إلى هذه الصعوبات بشكل مُتمعِّن في حجم الإشكالية الأسرية في مجتمعاتنا، يتبين أن الأمر مرتبط بضرورة معالجة قضايا إعادة النظر في السياسات المُتّبَعَة اعتمادا على تطوير بنيات الإنتاج وتوزيعه وتحسين شروط عيش المواطنين، وتغيير وضع المرأة كمكون أساسي للأسرة في إطار إنصافها والحد من التمييز ضدها، وفك طلاسم انهيار المنظومة القيمية والمبدئية لدى الأجيال الصاعدة بسبب انتفاء شرط التنشئة والتربية السليمتين، وحل مشكل العقل المُفكِّر داخل المجتمعات الإسلامية الذي أبان عن عجزه في مواكبة شروط التطور الزماني والمكاني، وتجاوز معضلة الاجتهاد وفق متطلبات الواقع الذي تحرّك وتطوّر خارج بنية ما يجيزه أو يبيحه النص الشرعي كمصدر للعقيدة والتشريع. خاصة وأن المجتمعات لم تعد تعيش في إطار بنية مغلقة على ذاتها، بقدر ما صار واقعها يَتَفَاعَلُ في إطار سيرورة تاريخية مؤثرة في العلاقات الناتجة عن الكتلة البشرية أو التشكيلة الاجتماعية، ويَتَلاَقَحُ مع تجارب الشعوب والأمم المجاورة، ويُعْمِلُ العقلَ والتّفكيرَ بما يتناسب مع معطيات وخصوصيات العصر.

فما عاد الوقوفُ عند ظاهرِ النصوص الشرعية ولا باطنِها مُسْعِفا في الشرح والتفسير. ومتغيرات الواقع والمقاصد التشريعية أصبحت لهما الكلمة في تجاوز عجز الوقوف عند حدود قراءة السلف وتوفير إمكانيات الاجتهاد وفقا للمستجدات. وما عاد للدينِ ذاتِه صَدْرٌ يتّسع للتقوقع على الذات ولا للتحجر والتخلف ومناهضة الجديد، بقدر ما أصبح مُشْرَعا أمام ما أنتجته البشرية من قيم وتوجهات وأساليب وتقنيات وأنماط عيش ومن شروط انخراط فعّال في المساهمة من أجل بلورة قيم إنسانية كونية ومن ظروف مشاركة في تحرير الطاقات وتجاوز الفهوم التقليدية للأعراف والتشريعات المجتمعية المحلية. خاصة وأن منطق التطور علّم الإنسان، بغض النظر عن معتقده، أن يتأقلم مع إشكال الملاءمة بين الواقع والقواعد التشريعية والقانونية؛ إذ كلما ضاقت القاعدة واتجهت نحو تنميط العيش وضبط الواقع والحدّ من مغامرة الاجتهاد خارجها، كلما اتسع الواقع وتطور لفرض إعادة النظر في القاعدة ضمانا لمراعاة مستجداته وترجيح أساس مصالحه. ولا مخرج من هذه المعادلة دون امتلاك الجرأة الكافية لمواجهة معضلة التّعصب الديني والطائفي والعرقي والجنسي، ودون التّسلح بالقوة الاقتراحية المستندة إلى فهمٍ وتأويلٍ مُتجدِّد للهوية الدينية والحضارية والثقافية. خاصة وأننا على محك ما يُطرَح من مشاكل تعوق مسار تطوير الحياة الاجتماعية بشكل سليم، وليس أمام نقاش يُفرزه نوع من التّرف الفكري للنّخب.

فالعزوف عن الزواج، وتزويج القاصرات، وزواج العاطلين عن العمل، وتحكُّم الآباء والأمهات في اختيار الأزواج والزوجات وتحديد مسار العلاقة الزوجية، وعدم القدرة على توفير بيوت الزوجية، وارتفاع نسب الطلاق، وتعدّد الزوجات، وعدم الإنصاف وغياب تكافؤ الفرص في الإرث، وتوزيع الممتلكات الزوجية، وحقوق وواجبات الرضاعة والحضانة والولاية على القاصرين والنفقة... كلها أمور تشكل ضغوطا مجتمعية تجد ترجمتها في المطالبة بتحسين وضع الأسرة وتعزيز مكانتها، وتدعو الجميع إلى حسن الإنصات لنبض المجتمع، وبذل الجهد للتمكن من إعادة النظر في منظورنا للأسرة. وما أحوجنا اليوم إلى تجاوز الإكراهات التي تحكمت في إعاقة مسار تغيير قوانين الأسرة، وترجيح كفة التحديث، والتدقيق في المفاهيم المُتحكِّمة في تصورنا للأسرة وما ترتب عنها من مقتضيات وقواعد قانونية، والابتعاد عن القيام بإجراءات شكلية تروم التهدئة وأنصاف الحلول وترضية الخواطر وبالتالي إبقاء الأمور مُعلَّقة إلى حين، بدل الإمساك بجوهر الموضوع وقضاياه العالقة. فالأمر يتطلب تعاقدا في إطار معالجة تصورية شاملة مُستحضِرة لكل الأبعاد الواقعية والفلسفية والنصية والمسطرية والتطبيقية لقضايا الأسرة.