رأي

عبد الجليل أبوالمجد: البرلمان الذي نريد!

"إذا أردت أن تعرف أي شعب في العالم فانظر إلى برلمانه ومن يمثله فيه وبعدها سوف تعرف أي الشعوب يستحق رمي الورود عليه أو ضربه بالأحذية" ونستون تشرشل. 

بادئ ذي بدء أود الإشارة إلى أن السبب الرئيس الذي دفعني لكتابة هذه السطور هو ظاهرة الغياب التي تميز الجلسات البرلمانية، لاسيما جلسة مناقشة مشروع قانون المالية الأخير، والتي أثارت نقاشا وجدلا واسعين.   

وقبل تحديد ملامح البرلمان الذي نريد! أو بالأحرى نحتاج، سنحاول الإجابة عن بعض التساؤلات: فما معنى البرلمان؟ وماهي أهميته؟ وما جدوى وجوده؟

كلمة "برلمان" معرّبة من أصل كلمة فرنسية (Parler). ومعناها الحرفي التحدث أو مكان الكلام. وذلك باعتبار أن الوظيفة الأساسية التي قام من أجلها البرلمان في تلك المرحلة كانت مناقشة الأمور العامة وقضايا الحكم بطريقة جماعية، إلى أن أصبح مؤسسة من مؤسسات الدولة تشارك في السلطة.

وكان أول استخدام لكلمة "برلمان" في سنة 1236 لتسمية المجلس الكبير في إنجلترا، الذي كان يضم المستشارين المقربين من الملك من نبلاء وبارونات ورجال الدين.

ومع انتشار أفكار الحرية وحقوق المواطنة ابتداء من عصر الأنوار والثورات، تطور البرلمان وأصبح هيئة نيابية، تنوب عن المواطنين وتشارك في السلطة، بل أكثر من هذا، فإن البرلمان قد أصبح محور نظام الحكم في بعض الدول، حتى أنها أصبحت تسمى الدول ذات النظام البرلماني، وأشهرها بريطانيا، حيث تتركز معظم السلطة السياسية في البرلمان، حتى قيل عن البرلمان البريطاني إنه يستطيع أن يفعل كل شيء، عدا تحويل الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل.

وهنا تبرز أهميته وجدواه، إذ يعتبر وجود البرلمان في دولة ما من بين أهم الشروط الأساسية لبناء الديمقراطية، وهو من بين أهم ركائز دولة القانون التي تقوم على أساس عدة عناصر، منها ما يتعلق بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: سلطة تشريعية تضع وتسن القوانين، وسلطة تنفيذية تسهر على تنفيذ القوانين، وسلطة قضائية تبت في المنازعات المعروضة على أنظار المحاكم.

أما عن ظهور البرلمان في العالم العربي، فإن أول مجلس نيابي حقيقي قد ظهر في مصر سنة 1866، وكان يعرف " بمجلس شورى النواب". والذي يعتبر أول برلمان في العالم العربي يمتلك اختصاصات نيابية فعلية وليس مجرد مجلس استشاري. وقد تغنى بهذه المؤسسة أنداك كبار الأدباء والشعراء، وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: 

حيوا من الشهداء كل مغيب.. وضعوا على أحجاره إكليلا . ناشدتكم تلك الدماء زكية.. لا تبعثوا للبرلمان جهولا.

وفي للمغرب، فإن أول برلمان تشكل كان سنة 1963 في ظل أول دستور للمملكة المغربية سنة 1962. إلا أن هذا البرلمان لم يكتب له البقاء لأسباب لا يسع المجال لذكرها، إذ تم حله وإعلان عن حالة الاستثناء سنة 1965. 

وبعد توالي الدساتير والمحطات الانتخابية التي مرت منها التجربة السياسية المغربية، جاء دستور سنة 2011 الذي تضمن مجموعة من الإصلاحات لتعزيز دور البرلمان، إذ كرس مكانة البرلمان باعتباره المصدر الوحيد للتشريع، فضلا عن اختصاصاته في مجال المراقبة البرلمانية، ودوره في تقييم السياسات العمومية. 

ومن أجل ممارسة النائب البرلماني لهذه المهام الجسام على الوجه الأكمل، أعطى الدستور المغربي مجموعة من الامتيازات والحصانات لأعضاء البرلمان بمجلسيه أو غرفتيه، وذلك من أجل أن يمارسوا أعمالهم دون أية قيود تحد من حريتهم وتحفظ لهم الاستقلالية بالشكل الذي يبعدهم عن أي تهديد أو ضغط يمارس عليهم، والحيلولة دون إعاقتهم عن متابعة أعمالهم على أكمل وجه.

جاء في الفصل 64 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011 "لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان ولا البحث عنه ولا إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولته لمهامه ما عدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك".

وبمقابل تلك الحصانات يتعين على النائب البرلماني العمل على دراسة المشاريع، والالتزام بالحضور قدر الإمكان، والانخراط بكثافة في عمل اللجان البرلمانية.

يستخلص مما سبق، أن البرلمان ليس مكانا للراحة أو امتيازا، فهو هيئة سياسية للتشريع والمراقبة تستلزم التفرغ والحضور، وتتطلب الصدق في السلوك، كما تتطلب الارتفاع بالعمل البرلماني إلى مستوى الضمير والعقل والمسؤولية والواجب.

وعليه، فإن أخطر أمراض البرلمان التي قد تنهي على مكانته في نظر الناس، وتفقده مشروعيته، وهو غياب المعنى الحقيقي للبرلمان الذي هو ساحة للنقاش والمبادرة والنقد البناء للتوصل إلى حلول وسط للصراع السياسي بأسلوب الحوار، لأن كلمة "برلمان" المعرّبة تعني أصلا الفعل والكلام (Parler).  

خلاصة الخلاصة: ما أحوجنا اليوم في ظل التحديات الراهنة الصعبة إلى برلمان قوي يفرض على الجهاز التنفيذي ترشيد موارد الدولة وتحسين استغلالها، إلى برلمان يتبنى قيم الإدارة الرشيدة والمشاركة الفعالة، برلمان يملك القدرة على المراقبة والتشريع والتقييم، واتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب.