قضايا

معرض الكتاب: دهاقنتُه و عرّابوه

عبد الدين حمروش

شاركت في لقاءات لفائدة التلاميذ حول موضوع القراءة. وفي ختام تلك اللقاءات، اقترح علي المشاركون تنشيط حفل القراءة بمعرض الكتاب.

كان أبعد عن اهتمامي، أن أنشط ذلك الحفل، لولا إصرار بعض المشاركين في اجتماعات تلك اللقاءات حول القراءة.

ما كان أغرب أن تثور ثائرة أحد “النشطين” في الاستعراض الثقافي على تنشيطي الحفل. اليوم، عدد من الكتاب اختاروا، عن طواعية، “السريبتيز” الثقافي، وبدون ثمن في كثير من الأحيان. وللأسف، لقد ألفوا “الظهور” في حضرة السيد الميكروفون، مع انتسابهم إلى الكتابة، التي من بين دروسها الأساسية: الزهد والتواري.

سريعا، أخرج من هذه المقدمة (الشخصية) إلى الموضوع الجديد/ القديم، الذي يتكرر، دورة بعد دورة، كلما حان موعد معرض الكتاب. وكالعادة، من بعض الكتاب الذين لم يشاركوا سيحتجون، في انتظار أن تتم برمجتهم في الدورة اللاحقة. أما الذين يشاركون من هؤلاء، فإن ملاحظاتهم الاحتجاجية، حول الدورة الحالية، سرعان ما ستتأجل إلى أن يحصل إهمال دعوتهم في الدورات القادمة. وهكذا، لن يكتب لهذا السجال أن يقطع شريطه بشكل بات وحاسم.

”    قضية المشاركة”، صارت مألوفة في تعليقات الكتاب، بل وصارت مما هو في حكم العادة، ما قد يجعل مسؤولي وزارة الثقافة يعتبرونها دليل تدافع “صحي” بين الكتاب، وبالتالي علامة على بعض التشويق المطلوب تحصيله، من تنظيم فعاليات مثل معرض الكتاب (الذي صار رباطيا بامتياز). وسنة بعد أخرى، سيتواصل الاحتجاج على من شارك في أكثر من دورة، وعلى من شارك في أكثر من “نشاط” في الدورة الواحدة. وسيحتد الاحتجاج على من صار يشارك رفقة زوجته في فعاليات المعرض، أو يتناوبان على دورات المعرض، على سبيل: دورة ليا، دورة ليك..

هل سنشهد، في يوم من الأيام، انتهاء نقاش “المشاركة” المؤدى عنها بـ 2000درهم؟ لا أعتقد أن هذا النقاش موجود في دول “الباع الثقافي وتقاليده”، اللهم إلا عندنا في محيطنا الإقليمي والعربي. ذلك أن في غياب هندسة واضحة، على مستوى برمجة فعاليات المعرض وأنشطته، مُنبنية على دراسات ميدانية دقيقة، تغطي المنشورات ذات الجودة والإقبال، والندوات ذات النوعية والامتداد، المردودية المادية والرمزية، (إلخ)، فإن من حق الكُتّاب “الغائبين/ المغيبين” الاحتجاج على عدم إدراج أسمائهم ضمن فعاليات المعرض، وهم يجدون “الأسماء” ذاتها تتكرر، دون فسح المجال لأخرى بالمشاركة، على الرغم من اعتقادها أن لديها مما يمكن أن تقدمه إلى زوار المعرض.

أقول هذا مستحضرا كتابا مغاربة جيدين في مجالاتهم، لم تتح لهم الفرصة، ولو مرة واحدة، للتواجد ضمن فعاليات المعرض. المشاركة في المعرض مبادرة رمزية، من بين مبادرات رمزية أخرى، تشكل فرصة للقاء والتواصل، ولم الابتهاج بـ “صورة الكاتب”، في زمن قلما يحصل الانتباه فيه إلى الكُتّاب اليوم. ممن لا يريدون المشاركة، وهناك منهم عدد لا بأس به، نحترم كتاباتهم ومواقفهم، ونحن غير معنيين بالحديث عنهم في هذه الزاوية. أما الذين يرغبون في المشاركة، ويعتبرونها حقا لهم، من حقوق أخرى عديدة، فهم الذين نتحدث عنهم الآن. فأن يكون المعرض مكسبا لمعظم الكتاب، في جانب محدد من فعالياته، يندرج في إطار تدبير الڜأن العام، مع ما يقتضيه ذلك من حرص مواطناتي على المال العام، وعلى حكامة صرفه في أوجهه “الثقافية” الصحيحة.

إن السؤال الذي يمكن طرحه، من كل ما سبق، هو: لماذا يغيب بعض الكتاب غيابا تاما، في حين يحضر آخرون حضورا طاغيا؟ بكل بساطة، يمكن إرجاع ذلك إلى الاعتماد على “المنسقين” أنفسهم، الذين تتم الاستشارة معهم في من يفترض أن يشارك في فعاليات المعرض.

والملاحظ أن الاعتماد عليهم، لدورات عدة متتالية، يصيب المعرض بالاجترار والتكرار (على مستويات عدة من البرمجة، والعناوين، والمجالات، والمشاركين، إلخ). وعلاقة بالموضوع، جرى نقاش مع أحد مسؤولي الوزارة الوصية. ومما ردّ به عليّ، هو أن ما يلاحظ من تكرار في بعض الأسماء، إنما هو أمر مقصود ومدروس، بحكم الإقبال الذي تحظى به مشاركاتهم. يبدو هذا الكلام جد منطقي، من مسؤول وزاري يريد أن يرى دورات المعرض تنجح. ومقياس نجاحها، بالنسبة إليه، هو ضمان الإقبال على أنشطة المعرض وفعاليات (استضافة الكاتب السعودي أسامة مسلم والمغني- الممثل محمد رمضان، كمثالين، في هذه الدورة). وحتى لو لم يشارك هؤلاء الكتاب “الكبار” في تلك الأنشطة والفعاليات، فإن مجرد حضورهم بشخصوهم المادية، وهم يذرعون الأروقة والممرات، والزوار يلتقطون معهم الصور، هو مكسب للصورة التسويقية للمعرض، من وجهة نظر المسؤول ذاته.

قد نتفق حول هذا الرأي “الرسمي”، وقد نختلف.. قليلاً أو كثيرا. لكن الذي لا نختلف حوله، هو أهمية أن يعكس المعرض، بصفته أحد الأحداث الثقافية الوطنية البارزة، الذي يستهلك جزءا مُهما من ميزانية الوزارة الوصية، جوانب من دينامية المجتمع الثقافية: الكُتّاب الجدد، العناوين المتميزة، الأسئلة الإبداعية والمعرفية الأصيلة والمستجدة.

إذاً، هؤلاء المنسقون/ المستشارون، وفي غالبيتهم كُتّاب، لهم جمعياتهم وصداقاتهم ومصالحهم وحساباتهم، هم من يحسمون في كثير من فعاليات المعرض. والأخطر من كل هذا أن في جميع بلداننا العربية، من خليجها إلى محيطها، صارت لهؤلاء “تنسيقية” غير مُعلنة، يحسمون عبرها في فعاليات جميع المعارض العربية وضيوفها. وبدل أن تكون معارض الكتاب لحظات تتويج لدينامية الإنتاج الثقافي والإبداعي، صارت حاملة للاجترار والتكرار في كل شيء تقريبا. وليس من المستغرب، وعبر تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أن نتفاجأ بما قد نسميه ظاهرة “تكرار دعوة أسماء بينها” (وضمن بعض هؤلاء الوافدين، هناك من يستضاف رفقة زوجته، أو صديقته، بطريقة من الطرق)، ما قد يقترب بنا من الخريطة الثقافية/ الإبداعية المُصممة من قِبل هؤلاء.

تتردد بعض أسماء “مستشاري” وزارة ثقافتنا، المعتمدين لاختيار ضيوف المعرض وفعالياته، في الأحاديث الخاصة (وعلى وسائل التواصل الاجتماعي كما حصل السنة الماضية)، بين الفينة والأخرى. وإن كان تَردُّدها يدخل في باب تصفية الحساب، عن وجه حق أو غيره، إلا أن ظاهرة تكرار توجيه الدعوة إلى بعض الضيوف بعينهم (في معارض الكتاب، وفي الأنشطة الأخرى التي تُمولُها الوزارة أو تُدعمها من المال العام) يمكن لمسُها بشكل عام. ولذلك، من المهم إنجاز دراسة دقيقة في الموضوع، يتم من خلالها الكشف عن مصاريف الوزارة، في جانب محدد، وهو تغطية مصاريف الضيوف (من الداخل والخارج) خلال الولايات الحكومية العشر الأخيرة (مثلا): تذكرة الطائرة، الأوطيل، العلاوة.

هذه الدراسة المتقصية، لو أنجزت كما ينبغي، من شأنها أن توضح طبيعة الضيوف، من حيث: مجالات كتاباتهم، أصالة أسئلتهم، إشعاعهم في محيطهم الثقافي، تنوع أسمائهم، بلدانهم، فئاتهم العمرية، خلفياتهم الثقافية. وإلى أن تنجز هذه الدراسة، من وجهة نظر سوسيولوجية- ثقافية، فإن النقاش العاطفي حول المشاركة (من عدمها) سيظل قائما. ومعه، ستظل قضايا أخرى (ذات العلاقة بمعرض الكتاب مُغيّبة)، من بينها سريعا: غلاء الكتاب العربي (والمغربي منه بوجه خاص)، غلاء كراء الأروقة، الغاية من إعفاء الجمعيات الثقافية (المُمارسة للنشر، والمستفيدة منه ماديا) من كراء الأروقة، ضعف الإقبال على اقتناء الكِتاب، غياب منشورات الوزارة الوصية (مثل سلسلة الأعمال الكاملة)، ودعم الكُتّاب ماديا نظير منشوراتهم (التي تضيع حقوقهم فيها من قبل الناشرين الخواص)، إلخ.