يشكل إنتاج المعرفة السياسية في السياق المغربي والعربي حقلًا معقدًا تتقاطع فيه ثلاثة أنماط تحليلية رئيسية: الأكاديمي، والسياسي ، وتحليل السلطة (المؤسساتي). تتفاعل هذه الأضلاع ضمن علاقة ديناميكية يتقاطع فيها التوتر مع التداخل، والاستقلال مع التبعية، مما يشكل مثلثًا تحليليًا تتحدد من خلاله رؤية الواقع السياسي وسبل التأثير فيه.
أولًا: الأنماط التحليلية وسماتها المميزة
1. التحليل الأكاديمي: يستند إلى المنهجية العلمية بمعاييرها من شفافية واختبار للفرضيات ومسافة نقدية، سعيًا لإنتاج معرفة تفسيرية ونظرية تنشر عبر القنوات المعرفية المتخصصة. يتميز بعمق الرؤية والاستشراف الطويل المدى والاستقلالية الفكرية النسبية. غير أنه يواجه تحديات الانعزال في "البرج العاجي"، وتعقيد الخطاب، والافتقار أحيانًا لملامسة التفاصيل العملية، فضلًا عن القيود الموضوعية في الوصول إلى المعلومات أو تجاوز الخطوط الحمراء في بعض السياقات.
2. التحليل السياسي (الحزبي والإعلامي): ينبثق من منطق الفعل السياسي المباشر، بهدف الإقناع والتعبئة والتبرير الأيديولوجي وكسب المعارك السياسية قصيرة ومتوسطة المدى. تكمُن قوته في معرفة دقيقة بتفاصيل اللعبة السياسية اليومية، واتصال مباشر بالواقع الاجتماعي، وحس تكتيكي مرهف. لكنه كثيرًا ما ينزع نحو الانحياز والتبسيط والتركيز على الصراعات والشخصيات على حساب البنى الهيكلية، مما يجعله تحليلاً ردّيًا قصير المدى.
3. تحليل السلطة (المؤسساتي): يتأسس على منطق إدارة النظام وضمان استقراره وحماية المصالح الاستراتيجية للدولة، من خلال صنع السياسات العامة والتحكم في السردية الرسمية وتوقع الأزمات. يستفيد هذا النمط من إمكانية وصول غير مسبوقة إلى المعلومات وقدرة فريدة على ترجمة التحليل إلى قرارات ملزمة. ومع ذلك، ينزع إلى الانغلاق والسرية والدفاع عن السياقات القرارية السابقة، مركزًا على "تدبير" النظام أكثر من "فهمه" النقدي، وتشوهه أحيانًا اعتبارات أمنية وبيروقراطية.
ثانيًا: ديناميات التفاعل والتوتر بين الأضلاع
تتحدد العلاقات بين هذه الأضلاع بسلسلة من التوترات والتفاعلات المحتملة:
· بين الأكاديمي والسياسي: يسود توتر متبادل يتجلى في اتهام الأكاديمي للسياسي بالسطحية والانتهازية، مقابل اتهام السياسي للأكاديمي بالانفصال عن الواقع وعدم الجدوى العملية. رغم ذلك، يمكن للتفاعل الإيجابي أن يخلق تكاملاً، حيث يمد الأكاديمي السياسي بأطر نظرية لفهم التحولات المجتمعية العميقة، بينما يزود السياسي الأكاديمي ببيانات وتجارب حية تثري البحث النظري، وتتجسد هذه العلاقة في دور "الخبير" أو "المستشار السياسي".
· بين الأكاديمي والسلطة: يشهد توترًا بنيويًا، إذ قد تُعتبر القراءات الأكاديمية النقدية تهديدًا للسردية الرسمية، بينما يخشى الأكاديمي من انكماش هامش استقلاليته أو توظيف بحثه لأغراض ضيقة. قد يتحول هذا التوتر إلى تعاون عبر تمويل أبحاث محددة أو الاستفادة من الخبرة الأكاديمية في تطوير السياسات، لكن هذه العلاقة تبقى هشة ومشروطة.
· بين السياسي والسلطة: تمثل علاقة صراع وتفاوض يومي، حيث يركز تحليل السلطة على "تدبير" الفاعلين السياسيين، بينما يحاول التحليل السياسي التأثير في القرار أو انتقاده. غالبًا ما تتسم بالاستخدام المتبادل للمعلومات والتحليلات لقياس التوجهات أو هيكلة الخطابات.
ثالثًا: السياق المغربي: هيمنة السلطة وإشكالية الفصل
في الوضعية المغربية، تتخذ هذه الديناميات طابعًا خاصًا يتسم بهيمنة تحليل السلطة وسردياتها الرسمية، مما يشكل الإطار المسيطر الذي يُضطر التحليلان الأكاديمي والسياسي للتفاعل معه، سواء عبر القبول أو النقد أو التكيف. ويتجلى أحد أبرز الإشكاليات في ضعف الجسر الوظيفي بين إنتاج المعرفة الأكاديمية وتوظيفها السياسي، حيث تعجز الأحزاب عن ترجمة "التراكم الفكري" إلى برامج عملية قابلة للتطبيق في الواقع اليومي، لغياب الوسيط التقني القادر على هذه المهمة.
من هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى فضاءات وسيطة مستقلة، كـ "شبكات الأكاديميين للتحليل"، التي يمكن أن تلعب دورًا حيويًا في سد هذه الفجوة. لكن فعاليتها ومصداقيتها مشروطة بقدرتها على الحفاظ على مسافة نقدية من ضلعي السلطة والسياسي معًا، مع إبقاء قنوات الحوار المعرفي مفتوحة.
خلاصة
لا يمكن للتحليل السياسي أن يلعب دورًا حيويًا في فهم الواقع واقتراح مسارات التغيير إلا من خلال حوار خلاق بين هذه الأضلاع الثلاثة، مع الاعتراف باختلاف أدوارها ومنطلقاتها. يكمن الخطر الأساسي في انصهار أحدها في الآخر: عندما يتحول الأكاديمي إلى أداة تبريرية، أو يتحول السياسي إلى مجرد موظف في خدمة المنطق المؤسساتي، أو عندما تنغلق السلطة على نفسها وترفض أي قراءة خارج سرديتها. لذا، فإن الدعوة إلى تعزيز البحث العلمي الأكاديمي المستقل تمثل في جوهرها دعوة لإعادة الاعتبار لضلع أساسي في هذا المثلث، قادر على توفير أدوات فهم أكثر عمقًا وموضوعية، مما يسهم في تحقيق توازن معرفي ضروري لفك تعقيدات المشهد السياسي.






