حلّت ذكرى اعتلاء الملك محمد السادس العرش، وها أنا ذي أمام الورقة، لا أدري بأي زاوية أبدأ:
أأكتب عن المحطات الكبرى التي صنعها؟ عن الانتصارات التي راكمها بصمت؟ عن سياساتٍ غيّرت وجه الدولة، أم عن الملك نفسه، الإنسان الذي لا يُشبه أحدًا في ملامحه ولا في أسلوب حكمه؟
أم أكتب عني؟ أنا التي بدأت حياتها الفعلية مع بداية عهده، واختبرت، مثله، معنى التغيير التدريجي، ومعنى الصبر، ومعنى أن تحيا وسط تناقضاتك وأحلامك دون أن تفقد الإيمان بشيء ما أكبر.
لا أعرف.
لكني سأدع قلمي يكتب... كما يشاء، حيث يشاء، علّه يلتقط من هذه الذكرى ما هو أعمق من الاحتفال، وأبقى من الصور.
ليس سهلاً أن تكون ملكًا في زمن متقلّب، ولا أن تقود أمة في مفترق تاريخيّ تتشابك فيه رهانات الداخل بتعقيدات الخارج. وليس من السهل أبدًا أن تكون محمدًا سادسًا، في مملكة لا تُشبه غيرها، وموقعٍ لا يترك لصاحبه ترف التردّد أو الهروب.
عيد العرش، في نسخته السادسة والعشرين، ليس مجرّد احتفال رسمي، بل وقفة مع الزمن. زمنٌ تغيّر فيه المغرب كما تغيّرت الجغرافيا السياسية من حوله. لكنه، على غير عادة الاحتفالات، ليس لحظة نشيد وتهنئة فحسب. بل مناسبة تأمل صامت، لما مضى، ولِما لا يزال يتشكّل على مرأى العرش.
الملك محمد السادس ليس زعيمًا خطابيًا، لا يطلب التصفيق، ولا ينصب المنصّات. لكنه، ومنذ اليوم الأول، اختار أن يكون ملكًا بوجه إنسانيّ، بعيون ترنو إلى البعيد، وقلبٍ يستشعر النبض الصامت للشعب. لم يتورّط في وهم الزعامة الشعبوية، ولم يُغره مجد السلطة المطلقة. بل اختار درب الإصلاح البطيء، العميق، المتأني، رغم أن الناس لا يحبّون الانتظار، والسياسيين لا يحبّون الإحراج، والمفسدين لا يحبّون المساءلة.
ولعلّ ما يميّز هذا العهد، ليس فقط المشاريع الكبرى، ولا عودة المغرب إلى عمقه الإفريقي، ولا بناء البنية التحتية، ولا إشعاع المملكة الدبلوماسي… بل تلك القدرة الغريبة على الصمت حين يحتدّ الضجيج، والمضيّ حين يتراجع الآخرون، والاعتراف حين يخطئ البعض من المحيطين.
فمن يتأمّل خطاباته، سيكتشف لغةً تختلف عن لغة السياسيين. فيها نبرة أب، وفيها صرامة قائد، وفيها حزن رجل يرى البُعد الأخلاقي للدولة يتآكل أحيانًا أمام عينيه. ومن يتأمل مواقفه، سيرى ملكًا يثق في شعبه أكثر مما يثق في بعض السياسيين . ملكًا يفهم أن ما ينقذ الدول ليس الخطابات، بل القدرة على الإصلاح الهادئ، وعلى هندسة المستقبل بأدوات معاصرة.
لكن لنعترف: الملك لا يحكم وحده، وإن كان وحده يتحمّل الكلفة الرمزية للأخطاء التي لا يرتكبها. فكل تأخير في إصلاحٍ، وكل تلكؤ في مشروع، وكل انكسار في ثقة المواطن، يُحمل على حساب العرش. وهو ما يجعل هذه اللحظة مناسبةً صريحة لطرح السؤال الأهم: هل تساعد الدولةُ العميقة ملكها؟ هل يتحمّل المحيط مسؤولية اللحظة كما يتحملها الملك؟ هل تبني النخب جسورًا معه أم تستهلك عرشه في مناورات صغيرة؟
الملك ليس قدّيسًا، لكنه ليس خصمًا لهذا الوطن. هو رأس الدولة، لكنه أيضًا حاملُ قلقها المزمن. نراه في مستشفيات تُبنى، وفي قرارات تُكسر فيها البيروقراطية، وفي ردّ الاعتبار للفئات المنسية. نراه في خطاب العرش، كلما أشار إلى مواطن في الهامش، أو نبّه إلى خطرٍ صامت. نراه حين يُحمّل الأحزاب مسؤوليتها، وحين يسأل بصوت مرتفع: "أين الخلل؟".
ولعلّ الخلل، في كثير من الأحيان، ليس في القمة، بل في من يضعون أنفسهم وسطاء بين القمة والناس. الخلل في من لم يفهموا أن الملكية اليوم، ليست سلطة غيبية بل مشروع عقلانيّ، مدنيّ، وتنمويّ.
عيد العرش، بهذا المعنى، ليس فقط عيدًا للعرش، بل دعوةٌ لتجديد العقد بين الحاكم والمحكوم، بين الرؤية والواقع، بين الرأس والجسد. فكما لا يمكن لجسد أن يتحرك بلا عقل، لا يمكن لعقل الدولة أن ينجح إن تُرك الجسد متعبًا، ممزقًا، محبطًا.
في عيد العرش، لا نحتاج إلى المزيد من الورود، بل إلى مرآة. نحتاج إلى قراءة حقيقية لهذا العهد، لا بعيون التطبيل، ولا بنبرة التنقيص. بل بنظرة ناضجة، تزن الأشياء بحجمها، وتفهم أن السير في طريق معقّد، أصعب من الوقوف في مكان آمن.
الملك محمد السادس يسير في هذا الطريق، وحده أحيانًا، لكنه لم يتوقف أبدا..و لذلك لن ينقطع الرباط بينه و بين الشعب مهما خذله الوسطاء.






