.حين يخرج رئيس حكومة سابق، وزعيم سياسي بين آلاف الأقواس لا يزال يحظى بحضور إعلامي وتأثير رمزي داخل شريحة من المجتمع، ليخاطب الفتيات المغربيات وأسرهن بنبرة وصاية ذكورية صارخة، ويوصيهن بالزواج متى تقدم لهن "رجل مقبول"، ولو كنّ لا يزلن يتابعن دراستهن، فإنه لا يمارس فقط خطابه من موقع المحافظة الدينية، بل يعيد إنتاج منطق التبعية والنمطية الذي حكم تاريخ النساء في المجتمعات الأبيسية. كلام بنكيران، في ظاهره هو دعوة إلى "الستر"، لكنه في العمق تكريس لسلطة الرجل، وإخضاع للمرأة باسم الدين والتقاليد، متغافلًا السياقات المعاصرة، ومتجاهلًا حقوق المرأة واختياراتها واستقلالها.
في جوهره، يعيد هذا الخطاب الضيق، صياغة العلاقة بين المرأة والتعليم والزواج من منظور أحادي لا يرى في الفتاة سوى مشروع زوجة، وكأن غاية المرأة في الوجود هي أن تتزوج فقط، دون أن تكون لها تطلعات ذاتية أو مشروع شخصي مستقل. الأخطر أن بنكيران دعا إلى تزويج الفتيات حتى وإن كنّ يتابعن دراستهن، وكأن الزواج والدراسة أمران لا يتعارضان فقط، بل يجب أن تكون الأولوية للزواج، ولو على حساب التحصيل العلمي والتمكين الاقتصادي. هذه الدعوة تقوض بشكل خطير الجهود التي تبذلها الدولة ومؤسساتها ومجتمعها المدني من أجل النهوض بتعليم الفتاة، ومحاربة الهدر المدرسي، وتأمين حق المرأة في استكمال دراستها، خاصة في الوسط القروي حيث تُزف القاصرات تحت شعارات مشابهة.
والأكثر إثارة للقلق هنا أن بنكيران لم يحدد معايير القبول، بل ترك الأمر فضفاضا، خاضعا للمعايير العرفية التي كثيرا ما تُمجّد الذكورة في حدها الأدنى، وتقلل من قيمة الطموح الشخصي للمرأة. فإذا كان المتقدم "مقبولا"، فلا داعي للانتظار، هكذا يفكر الزعيم المحافظ، ضاربا بعرض الحائط كل معايير التكافؤ الثقافي والنفسي والاجتماعي التي تجعل من الزواج شراكة لا صفقة. وهو في ذلك لا يراهن على حب أو تفاهم أو مشروع مشترك، بل يربط الزواج فقط بالعرض والقبول، وكأننا أمام تسليع الرباط أو بناء علاقة بيع وشراء، لا رابطة إنسانية تقوم على الاحترام المتبادل.
أما من جهة أولياء الأمور، فقد وجه بنكيران كلاما لا يقل خطورة، داعيا إياهم إلى تزويج بناتهم متى جاء الخاطب، دون أن يُشترط أن يكون ميسورا. وهنا تُعاد إنتاج أسوأ أشكال الزواج التقليدي، حيث يضحي الأب بمستقبل ابنته تحت وطأة "الخوف من العنوسة"، وهي مفردة تعكس بدورها تصورات مجحفة تجاه المرأة غير المتزوجة، تُصورها وكأنها عالة أو ناقصة. في حين أن المرأة غير المتزوجة قد تكون مستقلة، مبدعة، مسؤولة، مساهمة في الاقتصاد الوطني، وربما في تربية أجيال من غير أن تمر من قنطرة الزواج.
النصيحة التي قدمها بنكيران لا تخلو من استغلال رمزي لموقعه السياسي والديني، وتُعبّر عن استمرارية خطاب الوصاية الذي لم يعد له مكان في مجتمع يسعى نحو التحديث والعدالة والمساواة. فالزواج، في المنظور التقدمي، لا يجب أن يكون هروبا من الفقر، ولا وسيلة لتأمين المستقبل، بل اختيارا حرا ومسؤولا، مبنيا على الاقتناع، وعلى مساواة حقيقية بين طرفين راشدين. أما اختزال حياة الفتاة في انتظار خاطب، والضغط عليها لتتخلى عن تعليمها، وتقديم صورة مثالية عن الزواج حتى في ظروف غير مستقرة، فذلك نوع من التزييف والانحراف الأخلاقي.
ولا يمكن لخطاب مثل هذا أن يُفهم خارج السياق العام الذي يعاني فيه الشباب من البطالة، وتعيش فيه الفتيات واقعا صعبا من التحرش والعنف الرمزي، ويُطلب منهن أن يكنّ في خدمة مؤسسة الزواج ولو على حساب أحلامهن. إن بنكيران، بهذا الكلام، يعيدنا سنوات إلى الوراء، ويعكس عجز الخطاب المحافظ عن التأقلم مع تطلعات نساء المغرب اليوم، اللواتي يردن أن يكنّ فاعلات، لا مجرد تابعٍ في مؤسسة عائلية غالبا ما يُعاد فيها إنتاج التبعية.
ولعل الجواب الحقيقي على دعوة بنكيران، هو في إصرار الفتيات على تصدر نتائج الباكالوريا في كل سنة، وعلى مواصلة تعليمهن العالي، وفي نضالهن اليومي من أجل أن يكنّ ذواتا مستقلة، لا موضوعا في توصيات شيخ سياسي يرى فيهن فقط أدوارا اجتماعية نمطية، وأدوات لتفريخ أجيال متكلسة لا تتيح أية إمكانات للتحرر والإبداع والمساهمة الفعالة في بناء مجتمع حديث ومنتج.






