لم يعد حزب التجمع الوطني للأحرار مجرد رقم في معادلة التوازنات السياسية يستعمل في استكمال خرائط التوازنات السياسية والهندسة الانتخابية، بل تحول، في عهد عزيز أخنوش، إلى قوة سياسية وازنة تمسك بخيوط الفعل السياسي، وتبادر إلى رسم ملامح المشهد الحزبي والانتخابي وقيادة الحركة السياسية.
هذا التحول لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة رؤية استراتيجية مدروسة عبر إعادة هيكلة الحزب وتنظيماته الموازية بشكل أفقي وعمودي، وبناء شبكة حزبية تمتد على كامل التراب الوطني، تدار برؤية نفعية برغماتية تتجاوز الإيديولوجيا والخطاب السياسي التقليدي.
لم يعد الحزب يستند إلى المرجعية الخطابية أو الشعارات، بل إلى شرعية الانجاز والميدان، وتفعيل منطق الفعل عوض القول، وهو ما تجلى في سلسلة المبادرات والمشاريع الميدانية التي أطلقها، من قبيل برنامج "100 مدينة"، و"مسار الثقة"، ثم "مسار التنمية". وهي مقاربات تسويقية تشكل واجهة للمنطق الجديد الذي ينهجه الحزب في مخاطبة الناخبين وتوسيع قاعدته الاجتماعية.
لا يقتصر اهتمام الحزب على التراب الوطني فقط، بل يولي أهمية كبرى لمغاربة العالم، الذين يعتبرهم "الجهة رقم 13" للحزب. ويعقد لقاءات دورية للحوار معهم، مستجيبا لتطلعاتهم واهتماماتهم، لاسيما وأنهم يشكلون كتلة اجتماعية، اقتصادية وسياسية مهمة، فضلا عن كون العديد منهم يحملون ثقافة مدنية ذات قيم ديمقراطية، ويشغلون مراكز مؤثرة داخل مؤسسات دولية كبرى.
سبق لعزيز أخنوش أن قدم "الديمقراطية الاجتماعية" كأساس مرجعي لحزبه، متأثرا بتجربة توني بلير في بريطانيا وبالنموذج الإسكندنافي المتقدم، إلا أن الممارسة الحكومية للحزب بينت انزياحه العملي نحو منطق النيوليبرالية على شاكلة توجهات دونالد ترامب، حيث لم تظهر "الدولة الاجتماعية" بالشكل المطلوب خلافا لمنطق السوق والمبادرة الخاصة.
هذا التناقض بين الخطاب والممارسة يعكس الطبيعة البرغماتية لأخنوش، الذي لا يتردد في الانتقال من موقع إلى آخر وفقا لمتطلبات السياق السياسي والاقتصادي، دون الوقوع في فخ الجمود الإيديولوجي.
لقد تحول التجمع الوطني للأحرار، في عهد أخنوش، من حزب إداري تقليدي إلى قوة سياسية، لا تستعمل في ضبط موازين القوى بل أصبحت ترسمها. ولعل أبرز ما يميز أداء حزب الأحرار هو تحركه المستمر في الميدان، بعيدا عن منطق التصريحات والمناظرات. فقد بدأ مبكرا حملته الانتخابية المقبلة من الجنوب، انطلاقا من مدينة الداخلة ثم العيون وكلميم، في مسار تصاعدي سيشمل أكادير ومراكش، ضمن استراتيجية محكمة تستهدف تعزيز الحضور الميداني والارتباط المباشر بالناخبين.
كما شرع الحزب منذ الآن في استقطاب الفاعلين المحليين الكبار في مختلف الدوائر الانتخابية، في سعي مبكر لتأمين الصدارة الانتخابية القادمة، تحسبا لاستحقاقات وطنية كبرى يتطلبها المسار التنموي الذي انخرط فيه المغرب.
في الوقت الذي اختارت فيه بعض الأحزاب السياسية التمركز في مواقع الانتظار أو التراشق الخطابي بلا حلول واقعية، اختار التجمع الوطني للأحرار بقيادة أخنوش طريق المبادرة الفعلية، ليكون حزبا يتحرك أكثر مما يتكلم، يخطط أكثر مما يبرر، ويراكم إنجازات بدل الانشغال بتبرير الاخفاقات عبر خطاب "التحكم" أو "الظروف السياسية".
هذه الدينامية المتسارعة تعكس وعيا مبكرا لدى قيادة الأحرار بأن الانتخابات لا تربح فقط بالصناديق، بل أيضا ببناء شبكات النفوذ المحلي والوطني، وبتوظيف آليات الهيمنة الناعمة، من تسويق سياسي احترافي إلى استخدام تكنولوجيا الاتصال، مع توظيف القدرة المالية التي يعرف بها الحزب وقيادته.
كل هذه العناصر مجتمعة تؤشر على أن حزب التجمع الوطني للأحرار، تحت قيادة عزيز أخنوش، لم يعد حزبا وظيفيا ظرفيا، بل قوة سياسية جديدة بصدد ترسيخ مكانتها ضمن هندسة النظام السياسي المغربي، من خلال البرغماتية والفعالية والتخطيط الاستباقي، وهو ما يجعل تجربته محط اهتمام المتابعين والمراقبين للشأن السياسي، ومحطة جديدة في مسار التحولات الحزبية بالمغرب..