في عام غاب فيه طقس الأضحية عن البيوت المغربية، حضرت أسئلة أعمق عنعلاقتنا الجماعية بهذه الشعيرة: بين الحكمة في الحفاظ على القطيع، وتحدّي إصلاحسلوكيات رسّختها العادة. ما الذي ربحناه؟ وما الذي وجب أن نُغيّره؟
في خطوة استثنائية فرضتها ظرفية مناخية واقتصادية دقيقة، جاء القرارالملكي القاضي بإلغاء شعيرة ذبح الأضاحي لهذه السنة كإجراء حكيم يستهدف بالدرجة الأولىالحفاظ على القطيع الوطني الذي تضرّر بفعل توالي سنوات الجفاف.
بحسب الأرقام الرسمية، شهد القطيع الوطني للأغنام خلال السنواتالأخيرة تراجعًا مقلقًا في أعداده، مقابل ارتفاع غير مسبوق في كلفة الأعلاف التيسجّلت زيادة بين ٪40 إلى ٪60.
في هذا السياق، كان استمرار الذبح الجماعي لملايين رؤوس الأغنامكفيلًا بتعميق الأزمة وضرب استدامة القطاع.
جاء القرار إذن ليُمكّن المربّين والفلاحين من الحفاظ على 5.5 إلى 6ملايين رأس كانت ستُستهلك خلال العيد، بما يتيح إعادة التوازن لهذا القطاع الحيوي.
قرار الإلغاء أتاح كذلك مناسبة لإعادة التفكير في مظاهر سلبية باتتتشوّه صورة العيد: الذبح العشوائي في الأزقة والساحات، في غياب الشروط الصحية؛تقطيع اللحوم في ظروف غير ملائمة وخارج المراقبة الرسمية؛ شيّ الرؤوس والأرجلباستخدام مواد غير صالحة أو بقايا إطارات السيارات المحروقة، بما يخلف من أضراربيئية وصحية؛ انتشار أسواق الأعلاف العشوائية في الشوارع؛ تكدّس النفايات فيالأحياء السكنية وما ينتج عنه من ضغط على خدمات النظافة؛ إضافة إلى الضغط المتكررعلى قنوات الصرف الصحي في العمارات
طالما شكّل عيد الأضحى مناسبة ذات وقع اقتصادي مزدوج: ففي حين يُنعشأنشطة تجارية واسعة ويرفع من دخل الفلاحين والكسابة، فإنه في المقابل يُثقل كاهلالأسر وينتج عنه ضغط كبير على المرافق العمومية.
فيما يلي نضع بين أيديكم بعض الأرقام الاقتصادية الدالة المرتبطةبهاته المناسبة:
الأسر المغربية تنفق ما بين 30 إلى 36 مليار درهم على العيد، بين كلفةالأضحية (أزيد من 24 مليار درهم) ومصاريف إضافية (ملابس، أعلاف، نقل...).
العيد كان يدر على الفلاحين رقم معاملات يناهز 4 إلى 5 مليارات درهم،مع ارتفاع ملحوظ في أسعار الأضاحي.
قطاعات النقل، والمواد الاستهلاكية، والتوزيع تعرف رواجا استثنائياضمن دينامية تجارية جد واضحة.
الدولة تتحمل كلفة اجتماعية وبيئية مرتفعة: نفقات ضخمة في النظافة(250-300 مليون درهم)، عبء إضافي على قطاع الصحة بسبب الحوادث والتسممات،
استهلاك مفرط للماء والكهرباء (+15% إلى 20%).
خسارةالدولةلرقم معاملات مرتبط لTVA يقدر بين 700 و900 مليون درهم.
هذا الواقع يعيد إلى الواجهة النقاش حول التوازن بين الأبعادالاجتماعية والاقتصادية للعيد. صحيح أن قرار الإلغاء خفّف، فعليًا، العبء الماليعن الأسر في سياق ارتفاع الأسعار، لكنه بالمقابل كشف نوعًا من اللهفة الاستهلاكيةعلى اللحوم الحمراء، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها، وهو مؤشر على الحاجة إلى إصلاحثقافة الاستهلاك المرتبطة بهذه المناسبة.
وجبت الإشارة إلى أن الامتثال للقرار الملكي جاء نتيجة تفهم عميقللظرفية والسياق الذي صدر فيه الخطاب، مدعومًا بقدر كبير من الوعي والمسؤولية التيأبان عنها المواطنون. غير أن هذا الامتثال لم يُبنَ على القناعة الذاتية وحدها؛فقد ساهمت فيه أيضًا منظومة رقابة متكاملة:
أجهزة الرقابة الرسمية عزّزت حضورها الميداني.
التكنولوجيا الحديثة (كاميرات المراقبة، شبكات التواصل الاجتماعي)جعلت السلوكيات المخالفة مرئية للجميع.
الرقابة المجتمعية لعبت دورًا بارزًا، حيث وثّق المواطنون بعضهمبعضًا، مما عزّز الانضباط العام.
هذا التحوّل يُبرز أن بناء الوعي الجماعي لا يتم فقط عبر الخطابالرسمي، بل عبر بيئة شفافة تُحفّز السلوك المسؤول.
بالنهاية، أثبتت تجربة هذا العام أن عيد الأضحى ليس مجرد شعيرة دينية،بل هو مرآة لسلوكنا المجتمعي. الفرصة اليوم متاحة أمام الجميع دولة، مجتمع مدني،فاعلين اقتصاديين، مواطنين لإرساء قواعد جديدة لاحتفال حضاري بالعيد. تنظيم أسواقالأعلاف، توسيع شبكة المذابح المرخصة، حظر صارم للممارسات الضارة كشيّ الرؤوسبإطارات السيارات، وتعزيز التربية البيئية والصحية عبر الإعلام والمدرسة... كلهاخطوات ضرورية في هذا المسار.
لا يجب أن ينسينا الانغماس اليومي، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، بأنالعيد في جوهره هو قبل كل شيء، هو شعيرة دينية سامية، تُحيي معاني الإيمانوالتضحية والتقرب إلى الله، وأن الحفاظ على هذا البُعد الروحي هو ما يمنح العيدقيمته ومعناه العميق وسط كل التحولات.
فالهدف ليس أن يبقى العيد "غائبًا"، بل أن يعود حاضرًا بروحمتجددة، نظيفًا، راقيًا، ومنسجمًا مع متطلبات مغرب حديث.
"ليست قوة القوانين وحدها ما يُنظّم المجتمع، بل وعي أفراده بأنالقيم الراسخة هي ما يمنح للأعياد معناها الحقيقي.