انفجرت في الآونة الأخيرة قضية خطيرة باتت تُعرف إعلاميًا بفضيحة "بيع الدبلومات الجامعية" بأكادير، وهي واقعة ليست فقط صادمة في مضامينها، بل مقلقة في دلالاتها وسياقاتها المؤسساتية. ورغم فظاعة ما تم تداوله، فإنه من غير المنصف، بل من غير المسؤول، أن تُستغل هذه الفضيحة الفردية لتعميم الاتهام أو جلد أسرة التعليم العالي بشكل جماعي. فالجامعة، رغم أعطابها، لا تزال إحدى آخر قلاع القيم والعقل والنقد، وهي الضمير المتبقي للمجتمع.
إن ما وقع، لا يمثل سوى انحرافًا شخصيًا جسيمًا، كان من المفترض أن يُواجه بمسؤولية ويُضبط بمساطر التعيين والمراقبة والتأديب والتتبع، التي يفترض أن تكون قائمة ومفعّلة. لكن أن تمر مثل هذه الأفعال مرور الكرام لسنوات طويلة، وأمام أنظار الجميع، من دون حسيب أو رقيب، ثم يُكشف النقاب عنها فجأة وبشكل مثير، ليتحوّل المتهم - الذي راكم خروقات في مؤسسات متعددة - إلى عنوان للانهيار الأخلاقي للجامعة المغربية ككل، فذلك هو الظلم بعينه، لا للأساتذة فحسب، بل للمجتمع برمته.
انني لا أبرّئ المتورطين. بل أؤكد على أن هذه الفضيحة تساءل أوّل ما تساءل من أغمض العين عن التجاوزات، وسمح بانتقالها بين المؤسسات، ومنح الثقة لمن لم يكن أهلًا لها. بل الأنكى من ذلك، أن تنقلب الآية، وتُوجّه المساطر نحو المشتكين في بعض الحالات، أو يُتهم من أطلقوا جرس الإنذار بالتشويش أو المبالغة، بينما تُحمى شبكات الفساد بمنطق النفوذ والتواطؤ. بل وغضّ الطرف عن الحسابات البنكية المتضخمة، وعن أسلوب العيش المتنافي كلياً مع الواقع المالي لأستاذ جامعي شريف. لقد وصلت الأمور إلى حد أن يُنشئ الشخص المعني فضاءً موازيًا داخل الحرم الجامعي، بمكاتب فاخرة وتجهيزات مستقلة، دون أن يجرؤ أحد على طرح السؤال البديهي: من سمح بذلك؟ وكيف أمكن تمويل ذلك؟ وأين كانت المؤسسة الأم في كل هذا؟
لقد مرّ هذا الشخص ـ حسب ما راج من معطيات ـ من مؤسسات عدة، وحُفظت شكايات ضده، وأُسندت إليه مسؤوليات أكاديمية رغم الشبهات المعلقة عليه، وجرى استقباله في مؤسسة جديدة ورغم بعض التحفظات بل الشكايات ضد قبوله، لكن دون نتيجة. فهل نحن أمام دولة مؤسسات، أم أمام نظام "اللاقرار" و"اللامسؤولية"؟ أين كانت الأجهزة الإدارية؟ أين كانت لجان البيذاغوجية والعلمية؟ أين كانت رئاسة الشعبة؟ وأين مهام المجالس التأديبية؟ أين كان الضمير المهني للمسؤولين؟ والأهم: من كان يُغطي على هذه المسارات المتكررة من الانحراف والعبث؟
إن اختزال هذا الملف الخطير في سلوك شخص واحد، أو تحويله إلى مناسبة لتصفية الحسابات مع الجسم الجامعي برمته، لا يعد فقط تبسيطًا مخلًا، بل يُعد ضربًا من التواطؤ غير المعلن مع ثقافة الإفلات من المسؤولية، وتغطية على غياب القرار في الوقت المناسب، من أولئك الذين فوّض لهم القانون صيانة شرف المؤسسة الجامعية ومصداقية الشهادات الوطنية.
ومن تم فإن المؤسسات الجامعية لا تنهار من خلال خيانة فرد، بل من خلال صمت من خُوِّل لهم القانون سلطة التصرف فاختاروا التردد، وسلطة الرقابة فمارسوا التجاهل، وسلطة الحماية فاستسلموا للخوف أو المحسوبية أو اللامبالاة. إن ما نعيشه اليوم من زعزعة للثقة في الجامعة هو نتيجة مباشرة لضعف الإرادة المؤسساتية في ضبط الفعل الجامعي على أسس القانون والأخلاق، لا على منطق "تدبير الوقت" أو "ترحيل المشكل" من مؤسسة إلى أخرى.
الأساتذة اليوم ليسوا في موقع الاتهام، بل في موقع الاستغاثة. يقولونها بوضوح: "اللهم إن هذا منكر". فمن غير المقبول أن تُختزل جامعة بكاملها في تجاوزات فردية، ومن غير المقبول أن يُنسى أن أغلب أساتذتنا يعيشون على رواتب محدودة ولكنها نقية وكريمة، ويواصلون أداء رسالتهم الوطنية والتربوية رغم الإكراهات المتعددة.
إن الخطر الأكبر اليوم، ليس فقط في بيع الشهادات، بل في بيع الثقة في الجامعة، وفي بث الشك في كل القيم التي تأسس عليها التعليم العالي. إن تعميم الاتهام هو الوجه الآخر للفساد، لأنه يُعدم النبل في نفوس الصادقين، ويقتل ما تبقّى من الأمل في الإصلاح.
إن المطلوب اليوم ليس فقط محاسبة المتورطين، بل مساءلة المنظومة التي سمحت بهذا الانحدار، ومساءلة من كان في موقع المسؤولية والصمت في آن. كما أن المطلوب هو حماية الجامعة من اختزالها في حالة شاذة، وتجنيبها ردة فعل انتقامية قد تُجهز على ما تبقى من احترام اجتماعي لدورها المركزي في البناء الوطني.