تفكير بصوت عالٍ في مصير حزب اختزل نفسه في شخص، فاختزل السياسة في دعاية.
أحيانًا، لا نحتاج إلى تقارير ولا استطلاعات لنفهم أن هناك شيئًا ما ينهار. نحتاج فقط إلى النظر في عيون الناس، إلى صمت الشارع، إلى ذلك الشعور الغامض بأن الثقة تذوب ببطء، وأن الصورة التي رُسمت بعناية، بدأت تفقد ألوانها.
ولنواجه السؤال المؤجل، بلا تردّد:
ماذا لو كان عزيز أخنوش هو أكبر مخاطرة في تاريخ حزب الأحرار؟
بل، ماذا لو لم يكن مجيئه للحزب قرارًا سياسيًا، بقدر ما كان استثمارًا خاطئًا في زمن بدا وكأن المال يشتري كل شيء، حتى الوعي؟
حين استلم أخنوش الحزب، بدا الأمر كصفقة: هو يضخ المال، والحزب يمنحه الواجهة. بدا كأن السياسة أصبحت "قسمًا تسويقيا" في شركة كبرى، والانتخابات مجرّد "حملة إشهارية" لإطلاق منتوج جديد: عزيز أخنوش، رجل الأعمال، رئيس الحكومة المقبل.
لكن السياسة ليست إعلانًا تلفزيونيًا. والمواطن ليس مستهلكًا. والوعود، مهما جُملت، لا تملأ الثلاجة حين ترتفع الأسعار، ولا تُسكِت غضب الشارع حين تشتد الأزمة.
حزب الأحرار اليوم في ورطة وجودية. ليس لأنه في الحكومة، بل لأنه لا يبدو كحزب في الحكومة. لا رؤية، لا خطاب، لا رموز لها كاريزما ولا فِكر.
الحزب اختُزل في صورة رجل، والرجل اختزل نفسه في ابتسامة فوق ملصق، وفي صمتٍ تحت بركان.
وإن كنا نبحث عن مؤشرات الفشل، فهي أكثر من أن تُعد:
الخطاب السياسي؟ لا يُقنع حتى أنصاره. إنشائي، مرقّع، مصاب بالدوخة اللغوية، عاجز عن خلق سردية سياسية جامعة.
التمثيل النسائي؟ بدل أن يكون مكسبًا ديمقراطيًا، تحول إلى مرآة تُكثّف الرداءة، تفرغ السياسة من مضمونها، وتستعرض الشكل على حساب العمق.
النزاهة؟ سؤال مؤلم. فكل جهة في المغرب تقريبًا عرفت ملفًا لمنتخب من حزب الحمامة متورط في فساد، أو متهم بتبديد المال العام. وحين يعمّ الفساد، ويغيب الحساب، تصبح السياسة مجرد حقل ملغّم... تفوح منه رائحة الإفلاس الأخلاقي قبل السياسي.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح داخل الحزب، بصوت مرتفع، وبلا خجل:
هل أخنوش زعيم؟ أم هو "مدير مرحلة" جُلبت له السياسة كما يُجلب مستشار تسويق؟
هل يملك تصوّرًا عن الدولة، عن المجتمع، عن العدالة الاجتماعية؟ أم أن كل شيء اختُزل في كلمة واحدة: "استثمار"؟
في السياسة، الزعامة لا تعني القدرة على الصرف، بل القدرة على الإقناع.
ولا تعني أن تُحيط نفسك بوجوه تُطبل، بل بعقول تُجادلك وتبني معك.
ولا تعني الفوز بأغلبية، بل القدرة على جعل تلك الأغلبية تعمل، تتنفس، تصغي، وتبتكر.
لكننا أمام حزب أغلق على نفسه غرفة صدى. لا يسمع سوى صوت المال، ولا يرى سوى صورته في المرايا، ولا يشعر أن الأرض تهتز تحت قدميه.
الناس تغيّرت. المزاج الوطني تغيّر. والوقت لم يعد في صالح التردد.
وها نحن نعود إلى التفاحة.
نعم، التفاحة. تلك التي أخرجت آدم من الجنة، والتي سقطت على رأس نيوتن فألهمته قانون الجاذبية.
فيا سيّدي أخنوش، "الجرادة مالحة" و "جنان الصالحة ضاق" و قد تكون تفاحتك أنت هي تلك التي تسقط فوق رأس الحزب، لا لتُخرجك فقط من "جنة الحكم"، بل لتعيدك إلى سؤال لم تطرحه منذ البداية:
هل تصلح فعلاً للسياسة؟ وهل السياسة تصلح لمن يتعامل معها كفرع استثماري؟
لستَ في خطر لأنك في الحكومة، بل لأنك لست في السياسة.
السياسة، يا سيّدي، ليست عرض PowerPoint.
ولا حملة ترويجية.
ولا قاعة اجتماعات مليئة بمصفّقي الرواتب.
هي فنّ الخيال الواقعي، وصنعة بناء الثقة، وإدارة الأزمات، والاعتراف بالخطأ، والقدرة على الإصغاء، ثم الإصلاح.
إن كنتَ لا تؤمن بهذا، فافعل كما يفعل أي مدير شركة مفلسة: غيّر الاسم، لوّن الشعار، تخلّ عن بعض الموظفين، واصنع شعارًا جديدًا: "أحرار 2.0".
وإن فشل ذلك، أعد قراءة التاريخ:
كل زعيم ربح بلا مشروع، خسر بلا أسف.






