"السياسة لعبة الممكن، لكن القيادة الحقيقية تبدأ حين يصبح المستحيل ضرورة." هكذا كتب عالم السياسة جيمس بيرنز ذات زمن بعيد. وأنا أعيد قراءة هذه العبارة الآن، أفكر: هل ما زلنا نلعب في هامش الممكن؟ أم أننا وصلنا فعلاً إلى عتبة الضرورة التي تفرض علينا التفكير خارج الصندوق الحزبي؟
في لحظة ما، يتوقف الضجيج السياسي عن إقناعنا. كل الكلمات تتشابه، كل الوعود تفقد بريقها، والوجوه تتغير دون أن يتغير الإحباط. من هنا بدأتُ أطرح السؤال البسيط والخطير: ماذا لو جرّب المغرب حكومة بغير لون سياسي؟ حكومة تلبس بذلة العقل لا قميص الحزب. ماذا لو راهنا على الكفاءة الصرفة، على التقنية بلا أيديولوجيا، على الخبرة بلا حسابات انتخابية؟
المفصل الأول: السياسة حين تتعب من السياسة
هل تلاحظون أن السياسة في المغرب باتت متعبة من نفسها؟ الخطاب الحزبي بات يكرر نفسه كآلة صدئة. الانتخابات لم تعد تفرز شيئًا جديدًا، بل تدويرًا بطيئًا لمشاعر قديمة. وحين تتعب السياسة، يصبح الحل المنطقي هو: العودة إلى الأصل. نحتاج من يدبّر، لا من يتبارى في الخطب. نحتاج من يضع جدول الإصلاح لا جدول الحملة.
المفصل الثاني: الكفاءة... لكنها بلا كتف سياسي
لكن، لحظة. الكفاءة وحدها لا تكفي. التكنوقراط ماهرون في الأرقام، لكنهم بلا شرعية سياسية. بلا جمهور يحميهم، ولا آلة حزبية تساندهم. الإصلاحات الصعبة تحتاج ظهرًا قويًا، تحتاج سندًا شعبيًا، حتى لو كان مؤقتًا. فهل يمكن لحكومة بلا لافتة أن تنجح في بلد له شارع، وله نخب، وله تقاليد احتجاج؟
المفصل الثالث: العقل الأداتي لا يرى ما وراء الورق
الفرق بين من يُدبّر، ومن يُقنِع، فرق هائل. قد تعرف الطريق، لكنك لا تقود القافلة. التكنوقراطيون ممتازون في تخطيط المدن، لكن هل يستطيعون فهم الهويات؟ إدارة دولة كالمغرب لا تتطلب فقط قدرة على تسيير الملفات، بل ذكاء في فهم النفس الاجتماعية، في التعامل مع المزاج الجمعي، مع التوازنات غير المكتوبة.
المفصل الرابع: الكفاءة قناعًا للسلطة الصامتة
وهنا مكمن الخطر. في غياب السياسة، تصبح البيروقراطية هي الحاكم الفعلي. وهكذا، دون أن ندري، نكون قد فتحنا الباب لاستبداد ناعم: لا يضرب، لكنه لا يصغي. لا يقمع، لكنه لا يشرح. التكنوقراط قد يكونون عادلين، لكن من قال إن العدل يكفي؟ العدل يحتاج إلى حوار، إلى تمثيل، إلى سياسة.
المفصل الخامس: الحلول الجميلة... على الورق فقط
هل يمكن لحكومة تكنوقراط أن تُصلح الاقتصاد؟ ربما. أن تعيد الثقة؟ لا أظن. الثقة لا تُبنى بالأرقام فقط، بل بالوجوه، بالوعود، بالرمزية. المغرب لا يحتاج إلى خبراء فقط، بل إلى قادة يحملون المشروع ويؤمنون به. الكفاءة تحتاج إلى غطاء سياسي، إلى لغة مجتمعية، إلى نفس طويل.
المفصل الأخير: هل نحن خائفون من حكومة بلا وجه حزبي؟
أقول لنفسي: ربما نحن نخاف من الفكرة، لا من فشلها. نخاف من أن تنجح، فتكشف عجز البنية الحزبية. أو نخاف من أن تفشل، فنتورط في شتات بلا تمثيل. حكومة التكنوقراط ليست حلمًا ولا كابوسًا، هي مجرد احتمال، يستحق أن نطرحه بجرأة، لا أن نغتاله بالصمت.
و ننتهي إلى أن الجرأة هي السياسة حين تتحدث بصدق
أن نفكر في حكومة تكنوقراط، لا يعني أننا ضد الأحزاب. يعني فقط أننا نمنح العقل لحظة قيادة. نضع السؤال الصحيح بدلًا من الاستمرار في الجواب الخاطئ. والتاريخ لا يُصنع فقط بالوفاء للتقاليد، بل أحيانًا بالخروج عنها، حين تتعطل. فما لا تقوله السياسة، تقوله الجرأة. وأنا... اخترت أن أفكر بصوت عال.