تحليل

حين يُختطف الفن من رسالته

إيمان الرازي ( أستاذة بكلية علوم التربية)

ليس غريباً أن يُوظَّف الفن في معارك السياسة، لكن الغرابة كل الغرابة أن يتحول الفنان من حامل لقضايا الجمال والحرية والكرامة إلى بوق لطبقة سياسية لا تخفي نزعتها الجشعة ولا تحاول حتى أن تُجمِّل وجهها الكالح أمام جمهور أُرهِق من الوعود. الكاذبة. لكن حينما نتحدث عن التموقع السياسي لفنانة من حجم فاطمة خير، وهذا حقها، التي اختارت أن تصطفّ مع حزب يتبنى خيارات ليبرالية مفرطة ومتهافتة على السوق، فإننا لا نكتفي بوصف حدث سياسي، بل نرصد تهاتف التهافت الذي يشكل انحداراً أخلاقياً وفكرياً في مسار كان يُفترض أن ينحاز لنبض الفن لا لمكاتب الشركات.


الفن، في جوهره، انبثق تاريخياً من رحم المقاومة، من المعاناة الجماعية، من تمثّل الإبداع كفعل للحرية في وجه القمع، وكوسيلة لفضح التفاوتات بدل تجميلها. كان الفن دائماً يحاكي الوجع العام، يقتبس من حكايات المهمشين ويعطيها معنى وجودياً وجمالياً. من هنا نفهم كيف أن انخراط الفنان في مشروع سياسي محافظ أو بورجوازي استهلاكي، ليس خياراً محايداً أو مجرد انتقال وظيفي، بل سقوط رمزي مدوّ في حفرة النفاق الطبقي والانفصال عن قاعدة الفن الأصيلة.


إن الفنان لا يُنتظر منه أن يكون محايداً، فذلك الادعاء خدعة برجوازية بحد ذاتها، ولكنه مطالب بأن ينحاز للعدل، للحق، للقيم الكونية التي تأسست عليها الفنون الكبرى. فكيف لنا أن نفسر هذا الانحراف في مسار فنانة تربّت في الوعي الجماهيري كوجه درامي مُعبّر عن قضايا الإنسان البسيط، لكنها اختارت أن تُزاوج بين وظيفتها الفنية ورسالة حزبية لا علاقة لها لا بالعدالة الاجتماعية ولا بالثقافة، بل بالمضاربة العقارية والصفقات الكبرى التي تكرّس مزيداً من الإقصاء؟


تجربة فاطمة خير، التي تحولت من شاشة الفن إلى قبة البرلمان، لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق العام الذي يعرف هيمنة رأسمال ريعي على مفاصل القرار، واستيراد الوجوه الثقافية لتزيين مشهد سياسي فقد مصداقيته. إننا أمام إقحام فجّ للفنان في لعبة مصالح تُفرغ العمل الثقافي من شحنته الرمزية، وتختزل الإبداع في دور تبريري، أشبه بما كانت تقوم به بلاطات القرون الوسطى حين تحتضن الشاعر ليُغنّي للمستبد.


وهنا تبرز مفارقة خطيرة: الفنان الذي استمد شرعيته من محبة الناس، يتحول إلى أداة ترويجية ضد مصلحة هؤلاء الناس. ذلك أن الانخراط في توجه يتبنى سياسات سوقية ويؤمن بأن الوصفات النيوليبرالية المتوحشة هي الطريق إلى التنمية، لا يترك للفنان سوى هامش ضيق جداً للدفاع عن الفئات التي كانت تُشكّل أساس مشروعه الرمزي. فما قيمة الفن إذا أصبح غطاءً لهيمنة المال؟ وما جدوى التمثيل البرلماني إذا لم يُفضِ إلى تمثيل حقيقي لانتظارات الشعب، بل تحول إلى منصة لإعادة إنتاج هيمنة النخب الريعية على السياسة والثقافة في آنٍ معاً؟


حين يصبح الفنان مشرّعاً باسم رجال المال والأعمال، ومتحدثاً باسم فئات لا تَعرف المسرح إلا حين يُستعمل ديكوراً في حملاتهم، فإنه لا يخون فنه فحسب، بل ينقلب على ذاكرته الجمالية، ويصير شاهد زور على مرحلة يتعفن فيها الواقع ويُنتج الاغتراب. الجماهير لم تُحب فاطمة خير لأنها سياسية، بل لأنها جسّدت على الخشبة والشاشة مشاعر صادقة. وما إن زلّت قدمها إلى ميدان السياسة الانتهازية حتى اختلَّ هذا التعاقد العاطفي بينها وبين جمهورها، وتحول التصفيق إلى صمتٍ، وربما إلى خيبة.


إن الفن الحقيقي لا يحتمل الغدر بالذاكرة الجمعية، ولا التواطؤ مع سلطة المال. هو مشروع تحرر جماعي لا يقبل الارتباط بمشاريع لا تنتج سوى التفاوتات الاجتماعية. وبهذا المعنى، فإن تموقع فاطمة خير يُمكن فهمه كتعبير عن ميل عام يسعى فيه التغول إلى تدجين كل ما له رمزية أو شرعية جماهيرية. إنها استراتيجية استيعابية خطيرة تُفرغ المجال العمومي من إمكانات المعارضة الثقافية، وتحوله إلى حقل خاضع بالكامل لمنطق السوق السياسي.


الرسالة النبيلة للفن ليست في الجلوس تحت قبة البرلمان لتمرير قوانين السوق، بل في تبني المقهور، في تعرية الزيف. والفنان حين يقترب من التغول التي يراكم الثروة وتنشر اللامساواة، يفقد روحه الرمزية، ويتحول إلى أداة نفعية تُستهلك وتُرمى مع أول تغيير في موازين الربح. وهذا ما يهدد بفقدان الثقة في كل من تبقى داخل الحقل الإبداعي، ويُكرّس نظرة تشاؤمية مفادها أن الفن في النهاية خاضع للابتزاز الطبقي.


أما الفنانون الذين ما زالوا يعتقدون أن التعبير الإبداعي لا يمكن أن ينفصل عن الالتزام، فإنهم اليوم مطالبون بتوضيح مواقفهم، إزاء من يختبئون خلف واجهات حزبية براقة ليُمرروا سياسات التفقير. لقد آن الأوان لطرح سؤال جوهري: من يخدم الفنان حين يختار التحول إلى نائب؟ هل يخدم مجتمعه أم يخدم أجندة حزبية لا علاقة لها بالثقافة؟ هل يمثل صوت المبدعين أم يصبح أداة لشرعنة نظام إنتاج ثقافي متواطئ مع السوق؟


التحليل النقدي لهذا التموقع يُفضي إلى قناعة أن التماهي مع بورجوازية لا تُنتج سوى التفاوتات، لا يُنتج فناً بل ينتج كاريكاتوراً للفنان. ويطرح سؤالاً أعمق عن دور المثقف في زمن التواطؤ الطبقي: هل يكون شاهد عدل أم شاهد زور؟ وهل الرسالة الفنية يمكن أن تتعايش مع منطق الربح والخسارة، أم أن قدرها أن تبقى في صف النقاء؟ الفن، حين يُختطف من رسالته، يصبح شكلاً بلا مضمون، يصبح سلعة تُباع على أرصفة السياسة المنحطة.


خلاصة القول، إن تموقع فاطمة خير ليس مجرد اختيار شخصي، بل نموذج صارخ لتحول خطير في العلاقة بين الفن والسياسة. إنه اختزال لدور الفنان في وظيفة تكميلية لتغول سياسي يسعى إلى اختراق كل الحقول الرمزية. ومع ذلك، تبقى الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أن الفن لا يُزهر إلا في تربة الحرية، ولا يثمر إلا حين ينتمي إلى وجدان الشعب. ومن خرج عن هذا الوجدان، فقد خسر المعنى، حتى وإن كسب المقعد.