تحليل

مدونة الإسرة : هل تتناسب المقترحات التشريعية مع مستوى الدخل الفردي المغربي؟

الحسن عبيابة/ وزير سابق ورئيس مركز إبن بطوطة للدراسات والأبحاث العلمية والإستراتجية

 

ترأس جلالة الملك محمد السادس الاثنين 23 دجنبر 2024، بالقصر الملكي بالدار البيضاء، جلسة عمل خصصت لموضوع مراجعة مدونة الأسرة ، بعدما رفعت الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة تقريرا لجلالته.

وكان جلالة الملك أمير المؤمنين قد أحال جميع المقترحات المرتبطة منها بنصوص دينية على نظر المجلس العلمي الأعلى، وهي المؤسسة الدستورية الرسمية والوحيدة المخول لها إعطاء الآراء الشرعية دون غيرها، كما قام جلالة الملك بالتحكيمات الضرورية بالنسبة للقضايا التي اقترحت فيها الهيئة أكثر من رأي، وقد رَجح فيها جلالته الخيارات التي تنسجم مع المرجعيات والغايات المحددة في مضمون الرسالة الملكية السامية التي حددت فيها الضوابط الموجهة لعمل الهيئة والمتمثلة في “عدم تحريم حلال ولا تحليل حرام”.

إلى هنا نجد أن جلالة الملك أمير المؤمنين اتبع منهجية غاية في الدقة، من خلال تكليف المؤسسات المعنية بالإلتزام بهذه المنهجية، وهي منهجية علمية متكاملة رحب بها الجميع، الجديد كذلك هو أن بلاغ الديوان الملكي لتأطير اللقاء الملكي حول مدونة الأسرة أنتج مايلي :

. أولا : أننا أصبحنا نتوفر على مادة جديدة للنقاش وهي عبارة عن مقترحات وأفكار بت فيها المجلس العلمي الأعلى والهيئة المكلفة بصفة عامة والتي مازالت خاضعة للمزيد من النقاش والتمحيص قبل صياغتها في شكل مشروع قانون وعرضه على البرلمان لمناقشته والتصويت عليه

. ثانيا : أن هذا يعني أن كل المقترحات المطروحة مازالت تحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث، وهي حكمة من جلالة الملك لإقناع جميع مكونات المجتمع المغربي بالمقترحات والاقتناع بها، لأن مدونة الأسرة لم تعد مدونة أسرة، وإنما ستكون مدونة مجتمع بكامله مستقبلا .

. ثالثا : أن الجديد أيضا هو تكليف جلالة الملك من خلال هذه الجلسة التأطيرية كلا من السيد رئيس الحكومة والسادة الوزراء المعنيين وهم وزير العدل ، ووزير الأوقاف ، ووزيرة التضامن والأسرة بالتواصل مع الرأي العام، وإحاطته علما بمستجدات مراجعة المدونة في المراحل الأخيرة ، تم تليها بلورة جميع الأراء والأفكار المتفق عليها من طرف المجلس العلمي الأعلى وخبراء القانون في شكل مشروع قانون يعرض على البرلمان .

منذ صدور بلاغ الديون الملكي الذي أوضح طريقة العمل المتبقية يمكن تسجيل الملاحظات التالية :

. إن الأفكار والمقترحات التي عرضت على المجتمع للإخبار والنقاش كانت في معظمها جيدة وجديرة بالإهتمام ، بعيدا عن الأحكام المسبقة، وهناك مقترحات تحتاج إلى مراجعة أو إلى بعض التعديلات حتى تتناسب مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية، خصوصا أن هناك دعوة من جلالة الملك للمزيد من الدراسة والبحث والإجتهاد، خاصة بالنسبة للمجلس العلمي الأعلى .

إن عملية التواصل التي تكلفت بها الحكومة لم تكن موفقة فيها لا من حيث الإخراج، ولا من حيث الأسلوب، ولا من حيث تفسير مضمون المقترحات، حيث نجد أن بعض الوزراء تكلم بلغة التحنيط والقطع ولغة الحزم والجزم ، مما أعطى انطباعا بأنه لامجال لأي إجتهاد ممكن، ومنهم من تبنى خطابا استعراضيا كأنه في ساحة حرب وقد حقق إنتصارا في معركة إفتراضية لاوجود لها، ومنهم من اكتفى بما هو معلوم للجميع إما لضعفه أو خوفا من إبداء رأيه، هذا كله شكل لبسا وإبهاما لدى العديد من المواطنين ولدى الأسر الحالية أو المستقبلية، وترك مجالا كبيرا، للمتطفلين عن الدين وعن علم الإجتماع والإقتصاد والعلوم القانونية، وتكونت لدى الكثير من المغاربة مقترحات وأفكار جديدة غير تلك المقترحة رسميا ، وهكذا أصبح التواصل الحكومي حول المدونة مبهما، وهذا الإبهام خلق نوعا من القلق والاستغراب.

كما أنه لايمكن تقديم إقتراحات وأفكار جديدة حول مدونة الأسرة بدون معطيات أساسية لا علاقة لها بالقوانين ولا بالدين الإسلامي ، وتتمثل هذه المعطيات في مايلي :

  الأمر الأول :

التعداد السكاني الذي يحدد النسبة المستهدفة من التشريع والتي تمثل أغلبية المجتمع ، فالمغرب حاليا حسب إحصاء 2024، عدد سكانه بلغ 36,6 مليون نسمة، وبالتالي يجب أن نشرع لفائدة 90% من المجتمع المغربي وليس 10% منه فقط ، وبالتالي يجب الأخذ بعين الاعتبار المعطيات التفصيلية لبنية الأسر وتركيبتها الاقتصادية الإجتماعية والسكنية حتى يحقق تعديل مدونة الأسرة أهدافه.

  الأمر الثاني :

معرفة مستوى الدخل الفردي المغربي شهريا وسنويا، لأن المحدد لقيام الأسرة ليس القانون وحده أو الشريعة وحدها ، وإنما هو الدخل الفردي المحدد إحصائيا واقتصاديا، والذي حدد في كل التقارير الاقتصادية المحلية والدولية في معدل 5000 درهم شهريا، وهو ما يعادل 500 دولار أمريكي تقريبًا،

وهذا بالنسبة للعاملين وليس للعاطلين عن العمل، مع مراعاة نسبة البطالة التي بلغت نسب قياسية 21% وكذلك نسبة الفقراء التي حددت في معظم التقديرات بحوالي 8 ملايين شخص، وكذلك الطبقات الهشة ، وسكان البوادي الذين لا دخل لهم بعد سنوات الجفاف، مع الإشارة إلى أن الحد الأدنى للأجور الشهرية في القطاع الخاص بناء على آخر تحديث حوالي 3045 درهمًا مغربيًا (حوالي 290 دولارًا أمريكيًا) ابتداء من يناير 2025، مقابل 191 ساعة عمل قياسية في الشهر، أما الحد الأدنى للأجور في القطاع الزراعي فقد تم تحديده بنحو 76.7 درهم مغربي (حوالي 7 دولارات أمريكية) في اليوم، على إفتراض أسبوع عمل من ستة أيام ، وأكتفي بهذه المعطيات.

أما بالنسبة للقطاع العام الذي لا يتجاوز فيه عدد الموظفين مليون موظف، فقد كشف تقرير لوزارة الاقتصاد والمالية، عن أن نسبة 37.6% فقط من موظفي الدولة، يتقاضون أزيد من 10 آلاف درهم شهريا، بينما 26.2% لا تتجاوز أجورهم 6000 درهم شهريا، ونفس التقرير يشير إلى أن نسبة موظفي الدولة الذين تتراوح أجورهم ما بين 3000 و4000 درهم يمثلون نسبة 3.2%، وهي معطيات لا تمثل إلا جزءا قليلا من معطيات أخرى أكثر قساوة، كما أن الإحصاء الأخير أكد بأن ثلث المغاربة في المدن يعيشون في منازل مكتراة  وفي القرى، هذه الظروف تؤكد بأن النقاش حول تعديل مدونة الأسرة يجب أن يأخذ بعين الإعتبار هذه المعطيات، وكما يقول الأصوليون “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” والواجب هنا هو الدخل الفردي الشهري، الوحيد الذي قد ينشئ أسرة متوازنة ومنسجمة،

وإستنادا إلى حديث الرسول (ص) (….من إستطاع منكم الباءة فليتزوج … الحديث) ، وأعتقد بأن الباءة هنا هي القدرة المادية والمعنوية، وأهمها متوسط الدخل الفردي المغربي، ولذلك يجب أن نشرع للأغلبية وليس للأقلية، ولنا ثقة كبيرة في علمائنا الكرام، وفي مؤسساتنا المعنية بأن تراجع بعض المقترحات حفاظا على تماسك المجتمع المغربي وتجعل كل مكوناته المختلفة موحدة لبناء مجتمع قوي ومتماسك، والمغاربة كلهم قادرون على تحقيق التوافق دائما، من أجل المصلحة العامة تحت قيادة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس.